مازالت كلمات السفير أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، ترن فى أذنى حتى الآن، فقد جاءت تسطع كنوبة صحيان تفيق هذا الكيان العربى الخامل وتذكره بمواضع قوته التى نسيناها أو تناسيناها.
كنا فى اجتماعات المنتدى العربى للإعلام فى دبى، وكانت الجلسة الافتتاحية مع الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذى أمضى نحو الساعة يجاوب عن الأسئلة التى وجهت له، وفى الوقت الذى جاءت الأسئلة كلها قديمة ومتوقعة، وسارت على المنوال الرتيب الذى يتهم الجامعة بالعجز ويتساءل عن جدوى الإبقاء عليها فى وقت لم يعد للعرب وجود يذكر على الساحة الدولية، الى آخر تلك المقولات المكررة، كانت إجابات أبو الغيط مدهشة فى أنها قدمت رؤية نقيضة تماما لتلك الرؤية الانهزامية السائدة، فقد اختار أبو الغيط أن يذكرنا بنقاط قوتنا بدلا من الولولة والنحيب على ما آل إليه حالنا، فعلى الصعيد الاقتصادى مثلا ذكرنا بأن الناتج العربى يصل الى 3 تريليونات و330 ألف دولار سنويا، وذلك ينبغى أن ينظر له كمصدر قوة لا يستهان بها، قد تختلف الآراء حول كيفية استغلال عائدات هذا المبلغ، لكنه فى جميع الأحوال مصدر قوة علينا أن نعيها.
أما على الصعيد الثقافى فقد ذكر أبو الغيط الحضور بأن الثقافة العربية مازالت واحدة لم تتجزأ، تعززها اللغة العربية المشتركة، وقال إنه حضر أخيرا مؤتمرا فى الاتحاد الأوروبى فوجد هناك 11 كابينة ترجمة فورية لنقل وقائع المؤتمر الى اللغات الأوروبية المختلفة، وهو ما لا تحتاجه الجامعة العربية فى مؤتمراتها العربية، واللغة بالطبع ليست مجرد أداة تواصل وانما هى مستودع الثقافة والتاريخ المشترك، والتحدث بلغة الضاد هو تجسيد يومى للهوية المشتركة التى تشكلت على مدى القرون، والتى تتعرض اليوم لتهديدات غير مسبوقة، فهناك الحركات الطائفية المتطرفة التى تسعى لتفكيك المجتمع عن طريق ضرب الهوية القومية وإذكاء النزعة الطائفية القائمة على مفهوم خاطئ للدين يستبعد الآخر، وهو ما يناقض المثل والمبادئ التى قامت عليها الحضارة العربية فى أزهى عصور الدولة الإسلامية، ومع ضياع اللغة تضيع الثقافة والحضارة، بل تضيع الهوية، لذلك حين يتنبه رجل السياسة الى أهمية اللغة فهو يعبر عن فهم صائب ودقيق لعناصر القوة التى ترتكز عليها الأمة العربية.
وبعد أن انتهى أبو الغيط من تعداد مختلف نقاط القوة التى مازال العرب يحتكمون عليها، خلص الى أن الأمة العربية قادرة على التغلب على التحديات التى تواجهها، والتى قال إن أخطرها هو محاولات هدم الدولة الوطنية ومن ثم تفكيك الدول العربية وتحويلها الى دويلات صغيرة تقوم على الطائفية والعرقية.
وللوهلة الأولى بدا حديث الأمين العام للجامعة العربية حديثا قديما ينتمى الى عصر آخر مضى وولى وليس لعصرنا الحالى الذى لم يعد يتحدث فيه أحد عن قوة العرب وقدرتهم على مواجهة التحديات، لكن الحديث جاء كله مدعما بالحقائق ومصحوبا بالأرقام، فبدونا نحن المتخلفين الغافلين عن مواطن قوتنا.
ومنذ أيام تطرق أبوالغيط الى موضوع غاية فى الأهمية، بل هو أبو الموضوعات فى المرحلة الراهنة، وهو الإرهاب الذى ثبت أنه أحد أهم الأسلحة لتحقيق هدف التجزئة والاقتتال وهدم مقومات الدولة الوطنية، ففى المؤتمر الإقليمى السابع الذى نظمه فى بيروت مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية بالجيش اللبنانى، دعا أبو الغيط الى ضرورة تكثيف التنسيق والتعاون المشترك بين الجيوش العربية فى مواجهة الاٍرهاب والتنظيمات المتطرفة والميليشيات المسلحة التى أصبحت تنتشر الآن فى مختلف أرجاء الوطن العربى، وطالب بضرورة إجراء التغييرات اللازمة فى تدريب الجيوش العربية وفى تسليحها وفى أسلوب إدارتها للعمليات، بحيث يكون التركيز على العمليات الخاصة، كما دعا فى نفس الوقت الى رفع كفاءة أجهزة جمع وتحليل المعلومات، قائلا إن الاستخبارات تمثل حجر الزاوية فى الحرب على الإرهاب.
ثم تحدث عن دور الجامعة العربية فى ذلك فقال: «إذا كانت القوة العربية المشتركة مازالت هدفا لم يترجم الى واقع بعد، فلا أقل من مضاعفة التنسيق العسكرى بين الدول العربية على المستوى الثنائى»، فهل من الممكن أن يتم ذلك تحت مظلة الجامعة العربية؟ إن مثل هذا التنسيق قد يكون هو السبيل لتعزيز قدرات الجيوش العربية فى المعركة الجديدة التى تواجهها فى الوقت الحالى، ورفع كفاءتها فى مجال العمليات الخاصة من خلال المناورات والتدريبات المشتركة، وعن طريق تعميم أفضل الممارسات وتصويب الأخطاء والاستفادة من التجارب على مستوى الدول العربية التى تواجه نفس التهديدات.
وأكد الأمين العام أن »القوات المسلحة فى عالمنا المعاصر أصبحت تتعامل مع تهديدات مستجدة تتطلب استعدادا خاصا، فالحرب التى تخوضها الجماعات الإرهابية ميدانها الرئيسى هو العقول، حسبما قال، والإرهاب يعرف جيدا أنه الخاسر فى أى مواجهة مباشرة مع القوات النظامية، لذلك هو يخوض حرب استنزاف ممتدة ضد المجتمع ككل.«
وهكذا يعيدنا أمين عام الجامعة العربية مرة أخرى الى قضية الهوية بما تحمله من تراث ثقافى هو أحد ركائز قوتنا، فالحرب ضد المجتمع هى حرب ضد ثقافته وحضارته وتاريخه، وحين تعبر تلك الحرب حدود الدعوى الفكرية الى السلاح الأبيض والقنابل والمتفجرات، وتصل فى بعض الدول المجاورة الى حد استخدام أسلحة الجيوش النظامية من المدفعية والطيران، فهنا ينبغى دخول الجيش المعركة، وبنظرته العربية المتكاملة يرى الأمين العام أن على الدول العربية التنسيق والتعاون فيما بينها كى تواجه ذلك الخطر الداهم بالكفاءة المطلوبة.
إنها رؤية تستوجب التحية، لأنها رؤية متكاملة تعتمد على نقاط القوة الكامنة فى الواقع العربى، لكنها فى نفس الوقت رؤية عصرية تنبع من قراءة دقيقة للواقع الحالى وادراك واع بحقائق العصر، وهى قبل ذلك كله دعوة عملية تحدد معالم الطريق الذى علينا أن نتخذه كى تعود للعرب المكانة التى هم أهل لها.