الوفد
كامل عبد الفتاح
الراهب والراقصة
أحوالنا في مصر قريبة الشبه برواية " تاييس " لأديب فرنسا أناتول فرانس .. وتاييس بالرواية كانت راقصة بالاسكندريه تعبت من اللهو والسهر والرزيلة فقررت أن تدخل الدير .. وفي نفس الوقت ضاق أحد الرهبان من حياة الدير والزهد والتقشف والبعد عن ملذات الدنيا ، فقرر أن يذهب الي الاسكندريه ويستدرك مافاته ، وفي منتصف الطريق التقت تاييس والراهب ، ولم تكد تراه تاييس حتى انحنت عند قدميه تقول : من أجل أن أعيش حياتك النظيفه الشريفه هربت من وكر العار والحيوانيه ، فأنت آخرتي .. فقال لها الراهب : وأنا هربت من برودة الدير وظلامه ، وهربت من ارتكابي لجريمة يوميه - هي أن أقتل إنسانيتي .. إنني ذاهب لكي أراك في الاسكندريه ترقصين وتشربين ، فأنت دنياي .. ولم تفلح تاييس في اقناع الراهب أن يعود للدير ولاهو أفلح في اقناعها أن تعود الي شواطيء الهوى بالاسكندريه .
أتصور أننا كمصريين نعيش هذه الحالة منذ اربعين عاما علي الأقل .. حالة الايمان والغوايه .. حالة الراهب والراقصه .. حالة المتعبد والمخمور .. نحن مجتمع أفاق بعد عقود من الاغتراب علي حلم داعب خياله وأغواه أن يثور من أجله فثار .. أن يموت من أجله فمات من مات .. أن يصرخ من اجله فصرخ من صرخ .. أن يتطهر من أجله فتطهر وغسل ضميره بماء الثوره .. صلينا معا الشيخ والراهب والراقصة .. سمونا بأنفسنا إلي عوالم خارج المكان والزمان ، تسابقنا لننفض غبار الزمن والقهر عن سيده اسمها مصر .. سيدة عمرها الاف السنين بدت لنا في الميدان كصبية تحتفظ ببقايا من جمال ، أعياها السفر الطويل وتعاقب الغرباء عليها ونهشهم للحمها ولبنها وعسلها وطيبتها .
أزمة المصريين الان في ذلك الشعور القاتل باللازمن واللامكان .. شعور بحتمية الانفصال عن كل القيم والاغنيات التي ترددت في ليالي الحلم .. شعور من البعض بالرغبة القاتله في الارتداد وشعور لدى البعض الآخر بالرغبة الآسرة في البكاء والانزواء والموت حزنا .. كنا نعيش منذ أربعين عاما علي الأقل مثل من يمشي ويحيا معصوب العينين وفجأة وجد نفسه بمواجهة قرص الشمس فعجز عن الرؤية رغم انتهاء عصر الظلام .. اكتشف المصريون أن ماحدث بين 25 يناير و 11 فبراير لم يكن أكثر من مواجهة مثيره بين الراهب والراقصه - ومن لحظتها لابقي الراهب راهبا ولابقيت الراقصة راقصة .. لم يكن الراهب سوى الشعب الذي مل سجن الزمن وأسوار القهر العالية التي حجبت عنه الشمس ، ولم تكن الراقصه سوى السلطة التي تخيلنا أنها قد ملت رزيلة الفساد وتبين لنا ضمن ماتبين أنها نسيت أن العمر تقدم بها وشاخت مفاصلها وتيبست ولم تعد قادره لاعلي الرقص إن رغبت ولا علي الصلاه إن تمنت .. واكتشفنا ضمن ما اكتشفنا أن القوى المضاده للتغيير بالداخل لبست اقنعه كثيره .. البعض ادعي عشقه للثورة بالنهار والنوم بفراش الجريمة بالليل .
دول بالاقليم كسرت قاعدة البخل وكانت سخية في تسخير المليارات من أجل دفن الثورة ليلة زفافها .. ذبحها علي سرير الشعب لينفر الصغار من الفكرة ويكرهون تكرارها .. اختلطت الاوراق في السنوات القليلة الماضية وانتحرت معاني الكلمات من فرط احتقارها وابتذالها .. كثيرون انسحبوا من المشهد يأسا أو احتراما لذواتهم ، وآخرون تقدموا لواجهة المسرح ضاربين الدفوف ومهللين كلما انهمر نقوط الفرح أو التهبت دموع المعزين .. وفي غمرة الاقبال والادبار تموت أشياء كثيره ماكان لها أن تموت .. أحيانا أقول أننا نقف كمصريين في منطقة وسطى مابين الحياه والموت .. مابين الجنة والنار .. مابين المعبد والماخور .. لقد ضاقت بنا الأحلام من فرط هواننا علي أنفسنا وعلي غيرنا .. وعندما يذل القهر أعناق الرجال فلا غرابة أن يفضل البعض أن يكون سيدا في جهنم علي أن يظل خادما في جنة لاوجود لها .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف