الأهرام
صلاح سالم
الصهيونية كهزيمة للاستنارة اليهودية
بمجيء المسيح نبيا للرحمة لا القتال، رافضا أن يكون ملكا مقدسا لليهود، فاتحا شريعة موسى ودين الرب للأغيار / الأمم، مانحا الخيرية للمؤمنين المنتمين لإبراهيم بالروح لا الجسد، وبالعقيدة لا العرق، تأكد استقلال المسيحية كدين، ولم تعد مجرد فرقة يهودية، ومن ثم خضعت العلاقة بين الديانتين لنوع من الاضطراب الدائم، وربما الصراع العنيف، حتى آل الوجود اليهودى فى أوروبا نحو العزلة، وبدأ عالم «الجيتو» فى التبلور أولا فى المدن الإيطالية ثم انتقل سريعا إلى باقى مدن أوروبا قبل أن يبلغ ذروة اكتماله فى بولندا، حيث صار عالماً محكما ومستقلاً.

بنضوج فلسفة التنوير الأوروبي، نهاية القرن الثامن عشر، ولدت حركة تنوير يهودى «الهسكالاة» فى ألمانيا قبل أن تمتد منها إلى معظم أرجاء أوروبا الغربية، على يد موسى مندلسون، تلميذ كانط الذى حاول دمج اليهود فى الحياة الحديثة، وتفكيك عالم الجيتو الذى لم يعد متناسبا لا مع المجتمع الرأسمالى الصاعد بقوة، ولا حتى مع النزعة الفردية الكامنة فى الحداثة السياسية.

تتجذر الهسكالاة فى فهم (إنساني) للكتاب المقدس يوسع حدود الاختيار الإلهى ليضم المؤمنين من عموم الإنسانية، نجد له أصداء فى أسفار الأنبياء بعيدا عن سفري: التكوين وتثنية الاشتراع، الزاخرين بوعود الخيرية والاصطفاء، وهو فهم كان قد عبر عنه النبى حزقيال باكرا، زمن النفي، بالقول إن الله سيعيدهم إليه ويجعلهم من جديد شعباً له اوأعطيهم قلباً واحداً وأجعل فى داخلهم روحاً جديداً وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم لكى يسلكوا فى فرائضى ويحفظوا أحكامى ويعملوا بها ويكونوا لى شعباً فأكون لهم إلها«ً (حزقيال، 11: 19، 20). وهكذا تصير أرض الميعاد الحقيقية، كما كانت فى مفهوم المسيح، هى الأرض بكاملها، تتحول إلى ملكوت، يملك الله عليها ويوحدها بروحه أفراداً وشعوباً، فتتحول جميع قبائل الأرض وشعوبها إلى شعب واحد لله على اختلاف الأمم والألسنة، يئول تنوع عناصره لا إلى صراع واقتتال بل إلى تناغم وتكامل. صاغت الهسكالاة نموذج اليهودى العلماني، المندرج فى تيار الوعى الإنساني، كما أثرت فى العبادات اليهودية فى اتجاه يشبه تأثيرات حركة الإصلاح البروتستانتى فى الكنيسة الكاثوليكية.غير أن الحركة الصهيونية المتصاعدة بنهاية القرن التاسع عشر أجهضت تلك الحركة التنويرية، لتقيم على أنقاضها دولة استيطانية استعادت الفهم اليهودى التقليدي، القائم على أن سوء النية والعداء والتربص صفات أزلية فى «الأغيار» تدفعهم إلى الفتك باليهودى والتنكيل به مع أول فرصة متاحة. وبالتالى يصبح الحل الضرورى مكونا من شقين: أولهما أن يتخلى اليهودى عن موقفه المسالم وأن يتسلح بالعنف ويبادر به كنوع من الوقاية التى تقطع الطريق على الآخرين. وثانيهما هو انفصاله عن المجتمعات غير اليهودية ليتجمع مع سائر اليهود فى إطار خاص يحميهم.، وتصير الأرض الفلسطينية هى المكان الطبيعى لتجمع اليهود، والتى يصبح استيطانها والدفاع عنها بكل شراسة هو غاية التاريخ ومعنى وجود اليهود. فى هذا السياق ولد تيار (ما بعد الصهيونية) من رحم حركة (المؤرخين الجدد) منذ ثمانينيات القرن العشرين، وشهد ذروة صعوده فى تسعينيات القرن العشرين بفعل دفق العولمة والخطابات الفكرية المثالية حول النظام الكوكبى الجديد، وكذلك فى ظل اتفاقات أوسلو وأوهام السلام والتعاون الإقليمي. هذا التيار الذى يمكن نسبته إلى حركة التنوير اليهودي، يقدم النقد الأهم للأساطير الصهيونية حول الغياب العربى عن فلسطين قبل 1948م، ويدعو إلى إعادة تأمل التاريخ الإسرائيلى الذى كتب وتم اعتماده رسميا فى حمى سعى الصهيونية إلى بناء الدولة، حيث لم يكن هناك على الأرض الفلسطينية من اليهود، لا قبل بناء الدولة، ولا بعدها مباشرة قوة أخلاقية/ معرفية معادلة تستطيع أو حتى ترغب فى مقاومة أساطير هذا التاريخ الرسمي. ومن ثم إلى تبنى رواية تاريخية جديدة توائم بين الروايتين: العربية واليهودية شديدتى التناقض لحقيقة وجود كل منهما فى فلسطين. غير أن هذا التيار يبقى هامشا على متن عريض يتقاسمه بنسبة أكبر التيار الصهيونى الأساسى أو العلماني، الذى يتجه نحو اليمين السياسى منذ صعود حزب الليكود إلى الحكم فى نهاية السبعينيات. وبنسبة أقل تيار الصهيونية الجديدة (الدينية)، ممثلة فى ظاهرة الحريديم (اليهود الأرثوذكس) بالغى التشدد. وكما هزمت الهسكالاة أمام الحركة الصهيونية التقليدية منذ أكثر من قرن، يبدو أن تيار ما بعد الصهيونية، يوشك على الهزيمة النهائية أمام الصهيونية الدينية المتصاعدة وضغوط حركات الحريديم الاستيطانية، الأمر الذى يخنق الأهداف المحدودة لهذا التيار فى التوفيق بين حقيقة الوجود التاريخى الفلسطيني، وبين مشروعية الوجود السياسى الإسرائيلي، على طريق حل الدولتين أو حتى الدولة الواحدة الديمقراطية، القادرة على استيعاب جل مواطنيها العرب واليهود على قاعدة المساواة والتكافؤ. وها هى إسرائبل تصدر قانون (قومية الدولة) فى الذكرى السبعين لقرار التقسيم، لتؤكد طبيعتها كدولة عنصرية، لا تزال تحتل فى القرن الحادى والعشرين الميلادى أرض الآخرين بأسطورة عهد توراتى يسبق ميلاد المسيح بأحد عشر قرنا، ما يمثل معضلة ثقافية واستعصاء تاريخيا نادرا
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف