احمد عبد المعطى حجازى
آن لهؤلاء أن يقفوا عند حدهم!
نحتاج لنلقى نظرة ولو سريعة فى تاريخ العقائد الدينية نستفيد بها فى التعامل مع فتاوى التكفير التى تتطاير من حولنا كالخفافيش فى ظلمة هذه الأيام،
فتصيب المسيحيين وتصيب المثقفين وتبرر العنف وتشجع الارهاب. والحقيقة التى لانلتفت كثيرا لها أن تاريخ العقائد الدينية يكاد يكون تاريخا للنزاع الذى لم ينقطع، ليس فقط بين الديانات المختلفة، لكن أيضا بين الفرق التى نشأت داخل كل دين، وأصبحت كنائس ومذاهب متصارعة متنازعة يكفر بعضها بعضا، ويعلن بعضها الحرب على بعض. وربما كان النزاع الذى يقع بين المختلفين داخل الدين الواحد أشد وأعنف مما يقع بين دين ودين. لأن اختلاف الأديان مألوف ومبرر باختلاف العقائد والأفكار التى يقوم عليها كل دين. أما فى الدين الواحد فكل فرقة تدعى لنفسها ما تدعيه الفرقة الأخرى وتنازعها فيه. من هنا اختلف المسيحيون فى فهمهم لعقيدتهم وانفصل بعضهم عن بعضهم وأصبحوا كنائس ومذاهب متفرقة. وكذلك حدث فى الإسلام ولايزال يحدث حتى الآن.
المسيحية كما بشر بها المسيح عقيدة واحدة بسيطة تحقق للمسيحيين الشعور بالخلاص الذى يطلبه البشر جميعا، ويحققه كل إنسان لنفسه بطريقته. لكن المسيحية حين انتشرت واحتاجت لمن يشرحها ويفسرها، وأصبحت مؤسسات وممالك تحولت إلى كنائس مختلفة وفرق متناحرة ترى كل منها رأيا فى طبيعة المسيح وفى غيرها من المسائل، فمنها من يقول كما يقول الكاثوليك إن المسيح طبيعتان منفصلتان لأنه ولد من روح القدس ومن مريم العذراء، ومنها من يقول كما يقول المسيحيون المصريون إنه طبيعة واحدة اتحد فيها الروح والجسد أو اللاهوت والناسوت.
والذى عرفه المسيحيون فى تاريخهم عرفه المسلمون الذين بدأوا مع النبى جماعة واحدة. لكنهم اختلفوا بعده حول من يخلفه. وتحول الخلاف إلى صراع بدأ سياسيا وانتهى مذهبيا. فالسنة لهم فقههم والشيعة لهم فقههم، والخوارج لهم فقههم، والمعتزلة لهم رأى والأشاعرة لهم رأى آخر. ولا أريد أن أطيل، لأن الحديث عن هذه العقائد وهذه الفرق له أهله وله مصادره التى يستطيع القارئ أن يعود إليها اذا شاء، وإنما أردت أن أوضح هنا أن الخلاف حول العقائد الدينية قديم، وأنه أمر طبيعى وحتمى يجب علينا أن نقبله ونسلم به، لأن أحدا لايملك فى الدين أكثر مما يملك غيره وهو الإيمان بما يعتقد. ولو أننا أفسحنا المجال لهؤلاء الذين يرمون غيرهم بالكفر لما بقى أحد بمنجاة من هذه التهمة البغيضة التى تروج بين حين وحين، وتستغل فى ابتزاز المصريين وإرهابهم، وتجد فيهم من يسمع ويسكت، ومن يسمع ويعلن الحرب على الدولة والمجتمع.
لماذا ظلت هذه التهمة رائجة عندنا حتى الآن؟
الجواب لأننا لم نعد نعرف أى طريق نسلك. وضعنا قدما فى العصور الحديثة دون أن نرفع الأخرى المغروسة فى العصور الوسطي. فى العصور الوسطى لم يكن للبشر غير الدين ولم يكن يشغلهم إلا الحديث عنه والجدل حوله. انصرفوا عن كل نشاط دنيوى وتنازلوا عن حقهم فى الحرية وعن حقهم فى السعادة وحتى عن حقهم فى الحياة، وأصبح الدين هو علمهم الوحيد وعملهم الوحيد وهو سياستهم وحكومتهم وحياتهم التى صارت فى نظرهم لحظات يعبرونها إلى الفردوس الذى لم يتفقوا على طريق واحد يؤدى إليه، وإنما اختلفوا وتفرقوا، وأعلن بعضهم الحرب على بعض. فإذا كان هذا الحال مفهوما فى العصور الوسطى فهو لم يعد مفهوما فى العصور الحديثة.
العصور الحديثة تعرف للدين مكانه وللعلم مكانه وللسياسة مكانها. وربما كانت هذه العصور أقرب إلى فهم الدين من العصور الماضية. لأن الدين فى العصور الحديثة اختيار حر، وهو فى العصور الماضية قهر وإكراه. ولأن الدين فى العصور الماضية، كان بديلا عن الدنيا، وهو فى العصور الحديثة طاقة روحية نستفيد بها فى كسب الدنيا ونتعزى عما نخسره فيها. وأخيرا لأن الدين فى العصور القديمة كان ما يقوله رجال الدين، أما فى العصور الحديثة فهو ما يقوله الدين بلسانه وما نستفتى فيه قلوبنا ونعرفه بأنفسنا دون أن نخضع للوسطاء.
والمشكلة التى نعانى منها تتمثل كما أشرت من قبل فى أننا نعيش فى العصور الحديثة بأجسامنا ونظل محبوسين فى العصور الماضية محكومين بعقليتها وبخطابها الدينى الذى يضيق بحرية التفكير والتعبير، ويكره التعدد والتنوع، ويعتقد أن الحق كله فى الجانب الذى هو فيه، وأن الجوانب الأخرى كلها ضلال وانحراف.
والمدهش أن هؤلاء الذين يتحدثون باسم الاسلام يجهلون أو يتجاهلون أن الاسلام لا يحترم فقط الحق فى الاختلاف، ولا يعترف بالمختلفين فحسب، بل هو ينص على أن الاختلاف هو سنة الحياة لأن الحياة بلاد وشعوب وقبائل وعصور وثقافات ومطالب مختلفة، وأن هذا الاختلاف سعة وغني. وأنه ليس مجرد واقع يفرض نفسه علينا، بل هو نعمة ورحمة من الله الذى خلق الناس مختلفين كما خلقهم متفقين. يتفقون فى الغايات التى يسعون لبلوغها، ويختلفون فى الطرق التى توصلهم إليها. ولو أننا نظرنا بعمق وسعة صدر فى عقائد البشر لوجدنا الاتفاق أكثر كثيرا من الاختلاف.
لاشك فى أن التوحيد الاسلامى يختلف عن التوحيد المسيحي. لأن التجريد فى الاسلام يقابله التجسيد فى المسيحية، ولأن الحاجة للإمامة والسيادة عند المسلمين الأوائل تقابلها الحاجة للأبوة والخلاص عند المسيحيين. لكن الايمان بالإله الواحد، وبالثواب والعقاب، والبعث والنشور، والجنة والنار يجمع بين هؤلاء وهؤلاء.
يقول تعالى فى سورة المائدة «.. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة. ولكن ليبلوكم فيا آتاكم فاستبقوا الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون».
إذن لا سالم عبدالجليل، ولا الحويني، ولا الشعراوى ولا غيرهم له الحق فى الحكم على عقيدة غيره مسلما كان أو مسيحيا، إنما الحكم لله. ويقول تعالى فى سورة الحجرات «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».
ويقول فى سورة هود «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين».
ولقد آن لهؤلاء الذين يشتغلون بالتكفير أن يقفوا عند حدهم!.