الأهرام
عبد المنعم سعيد
بنك الأراضى فى مصر
يبدو أن حُكم المؤرخين على هذه المرحلة من تاريخ مصر سوف يكون أن الرئيس عبد الفتاح السيسى هو الرئيس الذى اخترق العقد المستعصية
فى الحالة التنموية المصرية، وحلها بالطريقة التى توفر الفرصة لتنمية سريعة، أى بمعدلات نمو عالية، ومستدامة، أى شاملة مصر بأقاليمها، وناسها من المصريين. آخر ما فعله الرئيس هو بعد استنكاره لإفساد عمليات تنفيذ مشروع المليون ونصف المليون فدان من خلال «وضع اليد»، فإنه أعلن عن حشد قدرات الدولة المصرية، بحكومتها وشرطتها وجيشها من أجل رفع الأيدى عن الأرض لإتاحتها للتنمية والاستثمار. المهمة صعبة ومعقدة كما هو الحال مع كل المهام الأخري، فأرض مصر مترامية الأطراف، ووضع اليد عليها بات نوعا من الهواية القومية التى جرى تقنينها بالصمت تارة، وبالقانون أحيانا أخري، رغم أن وضع اليد هو الحصول على ما لا يجب الحصول عليه، فضلا عن الاستغلال الاقتصادى الفاسد لها. «وضع اليد» هو حالة من حالات «البلطجة» الاقتصادية التى تحرم مصر والمصريين من أعز ما يملكون: الأرض.

قضية الأرض كما نعرفها هى نتاج تراكمات تاريخية طويلة ولكن الاهتمام بها بالطريقة التى تمت هى جزء لا يتجزأ من عملية استكمال تحديث مصر وإدخالها إلى دور الحداثة، التى ربما يبدو أنها جاءت إلى مصر مع الوالى محمد على فى مطلع القرن التاسع عشر، ولكن الآن ونحن فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين فإن العملية لم تستكمل بعد. علماء السياسة قالوا لنا إن «الحداثة» تأتى إلى الأمم إذا ما تمت أربع عمليات متزامنة: تكوين «هوية» الأمة، أى وجود رابطة معنوية وقيمية بين جماعة بشرية؛ و»التعبئة والحشد» لمواردها الاقتصادية والبشرية؛ و»المشاركة» السياسية للمواطنين؛ و»اختراق» أرض الدولة. العمليات الثلاث الأولى ليس هذا مكانها، ولكن العملية الرابعة هى موضوعنا لأن السيطرة على «إقليم» الدولة يعنى القدرة على استخدام أرضها. والمدهش أنه عندما قامت الدولة المصرية فى عام 1922، ورغم مرور أكثر من قرن على تجربة محمد علي، ورغم أن ملك مصر كان ملكا لمصر والسودان أيضا، فإن أرض مصر أيامها لم تكن مكتشفة اكتشافا كاملا، كانت الصحراوات مجهولة، كما كانت الواحات بأهلها وجغرافيتها فى حاجة إلى أكثر من عقد حتى تصل الدولة لها، وهو ما حدث فيما تلى من سنين طويلة. المدهش أكثر، وبعد كل هذه العقود من السنوات، فإن عملية اختراق الإقليم المصرى لم تزد على وصول الدولة إلى جميع الأجزاء، ولكن اختراقها بالبشر لم يزد على 7% من الأراضى المصرية. والعجيب مع ذلك كله أن الأرض الشاسعة ظلت «نادرة» وعصية على المستثمرين والراغبين فى التنمية. والآن فإن الحداثة لا تكتمل إلا عندما يمسك المصريون بتلابيب الأراضى المصرية عيشا واستثمارا ووجدا شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا.

هنا تصبح قضية الأرض البالغة الحيوية ليس فقط من أجل الاستثمار، وإنما لاستكمال عملية التحديث المتأخرة لقرنين وأكثر من الزمان، وربما آن لمصر أن تدخل عصرها. هنا أيضا فإن الأمر يستدعى وجود عدد من العمليات التى لحسن الحظ بات يقوم بها الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، ووزارة التخطيط بحيث نعرف جميع تفاصيل الأرض المصرية على اتساعها وتعدد صفاتها، وما عليها من بشر وحجر. المعلومات هنا تجعلنا نعرف ما لدينا من ثروة لا يمكن تنميتها ما لم تكن أوضاعها القانونية خاضعة لقواعد حديثة ترتبط بالقانون الشامل للدولة، وكذلك اقتصادها القومي. فلا يمكن للحداثة أن تحدث بينما أراضى الدولة واقعة تحت « وضع اليد». وهكذا فإن المسألة تصير فورا وبعد «رفع اليد» عن الأرض، وإخضاعها لقوانين الدولة فإلى أين تذهب؟ والإجابة أن واحدا من أسباب شيوع «وضع اليد» أن أرض مصر التى هى ملكية جماعية للمصريين ليس لها جهة محددة تمتلكها، وفى الأغلب تضيع قيمتها بين جهات متعددة، وتحكمها قوانين بعيدة عن الحداثة، بل إنها تعترف بوضع اليد على أساس من القانون أو العرف أو التقاليد.

الخروج من هذه الحالة إلى العصر الحديث يستدعى الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التى تعاملت مع ذات المعضلة التى نتعامل معها الآن، وتريد قيادة الدولة أن تنجزها قبل نهاية الشهر. الكاتب «نيوتن» فى صحيفة «المصرى اليوم» الغراء نقل لنا من تجارب الدول الأخرى تجربة إنشاء بنك للأراضى تتجمع تحت مظلته جميع الأراضى المصرية التى لا توجد «حِجّة» قانونية لامتلاكها من قبل أفراد أو هيئات عامة أو خاصة والتى تشكل أكثر من 90% من أرض مصر. البنك هنا مثل كل البنوك يكون الجهة الوحيدة المختصة بالأراضى المصرية، وهو الملجأ الذى يلجأ إليه كل مستثمر للحصول على الأرض مصريا كان أو أجنبيا، وهو أيضا الذى يعرف الخطة القومية التى تحدد أرض الزراعة والصناعة والسياحة والخدمات المختلفة من طرق ومواصلات مختلفة والمحميات الطبيعية وما هو ضرورى للأمن القومي. ومن الطبيعى فى هذه الحالة أن يكون له مجلس أمناء يشارك فيه كل أصحاب المصلحة فى استخدام الأرض، من أول القوات المسلحة إلى وزارات وهيئات الزراعة والصناعة والخدمات والاستصلاح والتعمير والاستثمار. وباختصار فإن بنك الأراضى يكون هو الجهة المعبرة عن الملكية العامة للأرض، وهو فى نفس الوقت الجهة التى تتولى تخصيصها للاستثمار، سواء كانت للمنفعة العامة أو المنافع الفردية، وهو الجهة التى تخصص جزءا من عائد بيع الأراضى الأموال اللازمة لرعاية الأرض والعناية بها. وكما أن لكل البنوك فروعا فإن بنك الأراضى أيضا سوف يكون له فروع فى المحافظات المختلفة، يوضع تحت مظلتها الأراضى العامة التى تقع فى زمام المحافظة أو تلك التى تضاف إليها مما يسمى الظهير الصحراوى الذى يعطى المحافظة رئة للاستثمار والتنمية. لابد لعملية رفع «وضع اليد» أن تصل إلى هدف مقصود؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف