الوفد
اكرم السعدنى
حكاوى السعدناوى
غريب أمر هذا الحى فى بر مصر.. لماذا قصده كل أصحاب المواهب وأغلب أهل الفن فى قاهرة الخمسينيات والستينيات.. حتى مبانيه كانت لها «رونق» فريد بين كل مبانى المحروسة وناسه هم زينة الخلق من الصغير والكبير.. كانت المبانى محكومة الارتفاع وهناك مساحات بين كل مبنى وآخر تسمح بوجود تهوية تغنى عن هذه الأجهزة التى جلبناها من الخليج من مراوح ومكيفات، هذا الحى أيضاً قصده طالب قادم من واحدة من أجمل بلاد العرب من دولة الإمارات العربية المتحدة ولم تكن الدولة بهذا المسمى بعد.. ولكن هذا الموقع من الخليج سكنه اناس سكنتهم كل الخصال الطيبة الودودة وهم محبين وعاشقين لمصر ومخلصين لها وهم على حالة الوله والمحبة دائمين، من هؤلاء الناس جاء الطالب سلطان القاسمى واتجه إلى نفس الكلية التى كانت حاضنة للمواهب المتفجرة فى سماء دولة الفن انها نفس الجامعة التى ضمت عادل إمام وصلاح السعدنى معاً وفى كلية الزراعة بجامعة القاهرة وجد الطالب سلطان القاسمى لنفسه محلاً بين الطلاب المصريين والعرب وفى الجيزة كانت له سياحة فى شوارعها وأزقتها وحواريها وجد ملح الأرض فى شخوص البسطاء.. فانبهر بهم وكانت الجيزة هى المحل المختار للبسطاء من البشر وعلى الرغم من أن الجيزة بها أحياء لا حصر لها.. إلا أن حى الدقى كان الأقرب إلى قلب الطالب سلطان القاسمى والأقرب أيضاً إلى الجامعة وإلى بناية بعينها وجد رجلاً يرتدى ملابسه الصعيدية المميزة كانت صحيح بسيطة ولكنها شديدة النظافة.. سأل الطالب عن شقة للإيجار وابتسامته الرقيقة تعلو شفتيه ولكن عم «إبراهيم» أجاب بسؤال معاك الأولاد والأسرة.. فنفى الطالب أن يكون معه أسرة.. وهنا أشاح عم «إبراهيم» البواب بوجهه وقال: ما فيش عندنا شقق للإيجار وعاد الطالب ليؤكد لعم «إبراهيم».. لو ممكن أأجر الشقة لمدة شهر واحد لأنى طالب فى الجامعة لو شفت منى أى شيء يغضبك وقبل ذلك يغضب الله.. لا سمح الله.. لك الحق فى إنهاء الإيجار.. ووجد عم «إبراهيم» نبرات الرجل تدخل إلى قلبه وعقله ووافق على أن يؤجر له إحدى شقق العقار الذى يبعد خطوات عن قسم شرطة الدقى وهكذا ضمن الطالب مكانه فى الجامعة وفى الإقامة أيضاً.. ومنذ اللحظة التى شهدت الحوار بينه وبين عم «إبراهيم» تلاقت الأرواح وانجذب عم «إبراهيم» للطالب الذى كان نموذجاً على السلوك القويم وحُسن الخلق ومخافة المولى عز وجل.. فقد كان حريصاً على أن يصحو مبكراً يوم الجمعة ويمر على العم «إبراهيم» كما كان يحلو له أن يناديه ويصحبه للصلاة فى المسجد القريب من البيت، وحتى هذه اللحظة لم يكن عم «إبراهيم» يعلم شيئاً عن حقيقة الطالب.. الذى تبين بعد ذلك بسنوات بعيدة ان له شأن عظيم فى بلاده ولكن الشيء الأكثر أهمية بالنسبة لعم «إبراهيم» هو خُلق وسلوك وطبيعة الطالب الذى كان يخصص للبسطاء فى الحى مبلغاً من المال لم يكن يمنحه لأحد منهم فى العلن على الاطلاق فقد كان يتحين الفرص حتى لا يلفت إليه الأنظار وما دفعته يمينه لا تعلم عنها شماله وراقب العم «إبراهيم» خطوات الطالب العربى الشديد الاعتدال واندهش بشدة.. فقد كانت السيدة الوحيدة التى زارته خلال سنوات الدراسة هى والدته فقط لا غير أما الذين ترددوا عليه وبصفة دورية فهم الطالب الذى تخبئ له الأيام ما لم تمنحه لأحد غيره فى سماء دولة الفن لا فى مصر ولا فى الوطن العربى ولا أبالغ لو قلت فى العالم بأجمعه عادل إمام.. وأيضاً كان العم الجميل صلاح السعدنى من أقرب الناس الى قلب وعقل الطالب العربى البديع الصفات الذى يتحدث عنه كل الناس بإعجاب فاق كل تصور فقد كان الطالب الصالح المجتهد الذى لم يرتكب خطأ واحداً فى حق أحد ولو على سبيل السهو.. وفى حوارى الجيزة وأزقتها ومقاهيها اختلط الطالب بأهل الجيزة وصحيح أن نيلها الخالد سحر لبه ولكن الأمكنة لا يزينها سوى البشر وقد كانت المحروسة دوماً متحفاً متجدداً لأصناف البشر من أمتع خلق الله إنسان ليس لهذا الصنف العظيم ولا لهذا التنوع والثراء البشرى مثيلاً فى أرض الله الواسعة.. واذا كان الولد الشقى السعدنى الكبير رحمه قد طاف بالمعمورة فإنه لم يتذوق طعماً للبشر وقد كان ذواقة يعشق شديد الذكاء وعظيم الغباء معاً ويقول ان مصر أغنى بلاد الدنيا بهذا الكم الذى ليس له مثيل وهذا الصنف النادر التكرار حتى الأهبل والعبيط وأبوريالة فى مصر ستجد وراءه قصة وله فى الحياة حكمة وفى شخصه ما يستحق الكتابة والدراسة وبالطبع كانت عين الطالب القادم من الخليج تصور هذه النماذج البشرية ومعها الحجر والأمكنة وعندما حان وقت الرحيل والعودة الى الديار ومسقط الرأس بعد ان نال شهادة التخرج حرص على أن يصور هذه المعالم وتلك المنازل التى أصبح لها فى القلب منازل وكان الوداع المؤثر بينه وبين العم إبراهيم والذى اكتشفنا بعد ذلك بسنوات طويلة كم كان كان العم «إبراهيم» ممثلاً فوق العادة وسفيراً لنوايا أهل مصر الطيبة.. فقد انتشرت فى الحى تلك الكلمات التى تحمل الثناء على هذا الوافد العربى الطيب القلب الخير بلا حدود وذات شهر كان الطالب يلقى بالسلام وسرعان ما يختفى يمضى فى طريقه دون أن يلتقى ببصره هؤلاء الذين تعود أن يمنحهم ما يعينهم على العيش الأفضل وشعر الجميع ان شيئاً ما حدث.. وبفطنة المصرى الخبير بتصاريف الزمان وما تلقيه من حالة مزاجية على الناس.. فقد أدرك العم «إبراهيم» ان الطالب يمر بضائقة مالية.. ولذلك انتظره عند باب الأسانسير.. وألقى الطالب السلام فإذا نبرات الصوت المتدفق العذب بها ما يشوب هذه العذوبة ألماً.. وهما ولم يكن الطالب حزينا لأسباب شخصية.. بالعكس فقد كان مهموما بهؤلاء البسطاء الذين لم يعد فى استطاعته أن يمنحهم الشهرية التى خصصها لكل منهم.. بسبب تأخر وصول مخصصاته المالية من الأسرة.. وساعتها ولم يكن هناك كلام فى هذا الخصوص على الإطلاق بين الطالب وبين العم إبراهيم.. ركب عم إبراهيم الأسانسير.. حيث لا يمكن لثالث أن يعلم بالأمر بينهما وأخرج من جيبه مبلغا كان بحسابات هذا الزمان فلكيا.. أنها تحويشة عمر عم إبراهيم مبلغ 300 جنيه بالتمام والكمال.. قال للطالب الرائع الصفات سلطان القاسمى.. ان هذا المبلغ لا يلزمنى وأخاف أن يضيع منى فأحزن عليه العمر بأكمله.. وحاول الطالب.. أن يقنع العم إبراهيم بالاحتفاظ بالمبلغ، ولكنه أقسم أن المبلغ سيظل مع الطالب حتى يحين موعد احتياجه إليه.
ويومها أدرك الطالب سلطان القاسمى أن اختياره للبسطاء فى أرض مصر كان هو الأرفع.. والأنفع.. وذات يوم تعقبت سيارته سيارة من أمن الدولة فقد أدهشهم أنه يقصد الأماكن الشعبية دون سواها.. وصحبوه ذات مرة للتحقق من الأمر.. فأجاب أنا أدرس فى مصر.. وأعشق أرض مصر وأهل مصر.. ومن يحب مصر وأهلها يذهب إلى أهلها وناسها الحقيقيين فى الحوارى والمناطق الشعبية مصر التى فى الحسين والسيدة زينب وشارع سعد والمحطة فى الجيزة والدقى والعجوزة مصر التى أحببتها فى الحارة والزقاق والعطفة وليست فى شارع الهرم.
وكانت الرسالة بليغة وواضحة وصريحة وحان وقت السفر وكان آخر المحبين فى وداع الطالب هو العم إبراهيم الذى أهداه الطالب.. كل متعلقاته.. بدله وقمصانه وبلوفراته وماكينة الحلاقة الخاصة به.. ثم سلم على العم إبراهيم وارتفعت المشاعر الى أقصى درجاتها وكل منهما يحاول أن يحبس دموعه ولكنها كانت أقوى من أى مقاومة ونظر الطالب إلى عم إبراهيم وهو يقول له.. لن أنسى يوم أو لحظة أو ثانية عشتها وتنفست فيها من هواء هذا البلد وخلع ساعة يده وأهداها إلى عم إبراهيم.. وسافر الطالب الذى كان ينتمى إلى الأسرة الحاكمة فى إمارة الشارقة ثم أصبح بعد سنوات قليلة حاكمها، ويا سبحان الله فى سنوات المنفى كان على «السعدنى» الكبير أن تتحول الشارقة إلى واحة يستريح فيها ويجد الأمن والأمان من غدر بعض حكام العرب وأنظمة العرب.. ان هذا الطالب المحب العاشق للمحروسة حول الشارقة إلى قطعة من مصر وفى قصره وضع 15 صورة لمناطق ومناظر كان يمر عليها كل يوم وهو فى طريقه للجامعة زين قصره بهذه الصور فإذا مر بها رفع يده وقال.. سلام الله عليك يا مصر.
عم إبراهيم حتى هذه اللحظة يتذكر الشيخ سلطان القاسمى بالخير كله.. فهو فى كل زياراته إلى القاهرة يحرص على المرور على عم إبراهيم.. ولكن بعد أن داخ فى رحلة البحث عن عم إبراهيم.. فقد كان الشيخ يمر فى كل زيارة على نفس البناية ويسأل عن عم إبراهيم موجود.. فيقول له البواب الجديد.. لا مش موجود.. وذات مرة صعد البواب إلى عم إبراهيم الذى أصبح وكيلا للسكان وقال له فى راجل سعودى بيسأل عنك كل فترة كده.. وقال له عم إبراهيم.. ابقى خليه يتفضل وذات عام.. جاء الشيخ سلطان والأمل يراوده بلقاء الرجل الصعيدى الشهم وسأل عنه.. فأشار له البواب على مكان عم إبراهيم.. وكانت سنوات العمر قد تركت معالمها على حاكم الشارقة وعلى العم إبراهيم.. وعندما وقع بصر العم إبراهيم على الشيخ سلطان قال له.. لو الذاكرة لسه بخير.. ح أقول ان اللى جد عليك هى اللحية.
وقال عم إبراهيم.. الشيخ سلطان وبالأحضان استعاد الرجلين ذكريات هى الأجمل فى العمر بأكمله ولعم إبراهيم حكايات لا تنتهى ولكن هناك حكاية ينبغى أن نعود إليها فى العدد القادم.. أحيانا الله وإياكم!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف