في ذات اليوم الذي عنف فيه رئيس الدولة على الهواء مباشرة نائبا برلمانيا اقترح تأجيل الزيادات في أسعار الطاقة إلى أن يتناسب ذلك مع دخول المواطنين، وسأله بغضب: إنت دارس الموضوع ده؟، كان آلاف المواطنين في دمياط يسألون ذات السؤال: هل درستم مشروع مدينة الأثاث قبل أن يعلن افتتاحها؟ أكثر من أربعة أعوام مرت ومحافظة دمياط بمدنها وقراها المختلفة تعاني أزمة اقتصادية طاحنة، بدأت بالعزوف الكبير عن شراء الأثاث مصدر دخل المواطنين باختلاف مستوياتهم الاقتصادية، وانتهت بافتتاح المرحلة الأولى من المشروع المنتظر في مدينة شطا على حدود محافظة بورسعيد. العبارات على جدران شوارع المدينة تشكو ارتفاع أسعار الخامات، ولا تمر دقائق دون تعبير عن رعب من الآتي ليأتي مشروع مدينة الأثاث ليزيد الخوف من الحاضر والمستقبل، ويزيد رغبات الدمايطة في استعادة ماض كان لحرفتهم وأياديهم وورشهم اليد العليا فيه. يسأل الرئيس في يوم الافتتاح: إنت عايز تقول لي ما نقلقش من المكن؟ فيجيبه صوتان لا يظهر وجهاهما وراء كتف الحارس: لا. يمضي أحدهما ليتهم الحرفيين بالخوف من التطور والهجوم على تقدم سيساعدهم كما حدث مع "ماكينة التخبيط" حين ظهرت، مستغلا أن أي مشاهد أو مستمع لا علاقة له بالمهنة لا يعرف الفارق بين الاثنتين. لسنوات طويلة ميزت مهارة الحرفة اليدوية لأهالي دمياط صناعتهم، جذبت معارض الموبيليا والورش الملايين من المحافظات الأخرى، يقف البائعون الصغار في مداخل المدينة انتظارا للسيارات القادمة بحثا عن جهاز العروسين ليختاروا الأنسب لهم وسط المعارض المنتشرة في كل متر. هذه الطمأنينة لأن البشر لن يتوقفوا عن الزواج وشراء الأثاث لم تحرك كثيرا من الصناع، ولم تدفعهم للقلق أو الخوف من المستقبل وتطور الأمور. في عام 2007 وما تلاه حين ظهرت طلائع الصينيين في شوارع مدينة دمياط والشعراء تكتشف كيف تسير الأمور وتسأل البعض عن صناعة الأويمة اكتفى أصحاب الورش والعاملون فيها بإسدال ستائرهم على المداخل حماية لتصميماتهم ظانين أن أي ماكينة ستظهر لن تستطيع منافسة براعة أويمجية دمياط ومساطرهم ولمسات أبنائها على الخشب. عجزت عقول الصناع والحرفيين عن إدراك ضرورة التحرك وإيجاد حل جديد للأزمة المتفاقمة بدراسة الأسواق وما تغير فيها واتجاهات المشترين الجدد فأين كانت الدولة وأجهزتها وصناعة محافظة كاملة بهذه الأهمية يهددها الخطر.
تراجع التصدير متأثرا بالأزمة الاقتصادية، وارتفاع أسعار الأخشاب والخامات، واتجاه المقبلين على الزواج إلى بدائل مختلفة مضافا إلى ذلك عدم تطور الأذواق وظهور المنتجات العالمية العصرية بحملات دعائية ضخمة وتسهيلات في السداد في مقابل فشل في مواكبة هذا التغيير. نشرت الصحف والقنوات الفضائية تقاريرها عن الكساد الذي تعانيه دمياط، ولم يتحرك أحد. قابلت من ترك ورشته وسرح عماله واشترى توك توك ليؤمن بعائده احتياجات أسرته، وآخرين كانوا آمنين في عزب النهضة والعنانية وغيرها واختاروا أن يعودوا إلى جحيم ليبيا خوفا من أن تطول جلساتهم على المقاهي في انتظار أن تتعدل الأحوال. سبق كل هذا الإعلان عن مشروع مدينة دمياط للأثاث الذي اعتبره أهالى المحافظة مشروعا موجها لرجال الأعمال فقط، وجاء الاحتفال به يوم الثلاثاء بفتور شعبي وإحساس بخطر جديد يضاف إلى ما سبب الأزمة التي يعيشونها وتتفاقم. أحاديث المواطنين في الشوارع وكتاباتهم على فيسبوك تقول ما هو أكثر من القلق. لم يتحدث أحد مع العاملين في كل هذه الحرف التي تمر بها الأخشاب قادمة من ميناء دمياط إلى أن تنتهي قطعة أثاث في منزل بعيد. يرى النجارون والأستورجية والشيالون والعاملون في معارض الأثاث والفرش والتنجيد وسائقو النقل أن الدولة باعتهم واشترت رجال أعمال جاهزين لتستثمر بهم في تجارة رابحة بلا عناء الاستماع إلى هؤلاء أو دمجهم في مشروع يستفيد من مهاراتهم وخبراتهم. ما مصير أصحاب الورش الصغيرة ممن ليسوا عاملين بإمكانهم أن يلتحقوا ببرامج تؤهلهم للحاق بآخر فرصة وليسوا من أصحاب الحسابات الضخمة في البنوك تحجز لهم مكانا في المدينة الجديدة؟ هل أخبر أحد هؤلاء بموقعه في النظام الجديد؟ هل سمع أحد شكواهم وعرف كيف يمكن إيجاد وسيلة للحفاظ على مصائرهم ومنازلهم وقوت يومهم؟ الماكينة ورجل الأعمال في مقابل صاحب حرفة باليومية أو الأسبوع. كان على الدولة أن تختار، وفعلت. يقول الرئيس مبتسما لصاحب ماكينة مستفيد من المشروع بعد أن أسهب الأخير في وصف مزايا التحول إلى استخدامها: "إحنا بناخد قرار بناء على كلامكم".