بينما كان نفر من الخبراء يتصارعون على شاشة إحدى القنوات الفضائية حول جدوى برنامج صندوق النقد الدولي، كانت هي في صراع من نوع آخر من أجل اللحاق بالمايكروباص الذاهب إلى السوق الكبيرة لكي تأتي بالليمون الذي تبيعه يوميا في الحي الراقي. بدت شاردة الذهن وهي تقلب في هاتف أسود قديم تحمله. فقد قاربت الساعة على الخامسة مساء ولم يرسل لها ابنها إشارة الرجوع من المدرسة على الهاتف كما اتفقا سويا بالأمس. كان ابنها ذو الاثنى عشر عاما دائم الغياب عن المدرسة وهو ما يهددها بفقدان معاش "تكافل وكرامة" الذي تعتمد عليه، بجانب بيع الليمون، للصرف عليه وعلى إخوته. وضعت هاتفها داخل جلبابها الأسود وهي في حيرة من أمرها.. لعله يظهر في رمضان، هكذا حدثتها نفسها عن زوجها الغائب منذ شهور.. كان يعمل سائقا حين تزوجها وهى لا تعلم الآن عنه شيئا. وبعد أن نجت وجميع الركاب من رعونة السائق، وصلت إلى مدخل السوق الكبيرة واتجهت مباشرة إلى الداخل باحثة عن زبائن لما تبقى لديها من ليمون، لعلها تتمكن من دفع جزء من مديونيتها لدى التاجر الكبير الذي يعطيها الليمون بالأجل وشراء ما يكفي لإعداد وجبة خاصة لأبنائها في الْيَوْم الأول من شهر رمضان الكريم. "رفع أسعار الفائدة هو تحرش رسمي بالمستثمر في مصر".. قالها الخبير الاقتصادي على الشاشة، بينما كانت أعين جندي المرور وصغار التجار على ناصية الشارع تكاد تخترق العباءة السوداء التي تختفي بداخلها كل يوم.. تجاهلت نظرات الحرمان من حولها وسلمت أذنيها للضوضاء المنبعثة من السيارات والبائعين حتى لا تسمع سخافات المتسكعين في الأسواق. وفي طريقها إلى التاجر الكبير، هالها منظر الزحام الشديد على محل الدواجن الحية في وسط الشارع.. كانت قد وعدت أبناءها بوجبة دجاج على إفطار الْيَوْم الأول من رمضان. ترددت هل تذهب الآن أم تنتظر حتى ينتهي الزحام.. لم تنتظر كثيرا، حيث أثار الضجيج والصياح القادم من هناك فضولها فذهبت لترى ماذا يجري هناك، ١٧ جنيه إزاي يا عم أمّال الفرخة نفسها بكام؟ صاحت سيدة مسنة في وجه البائع، فأجابها بـ٣٥ جنيه يا أمي.. خلصنا يا عم إعمل معروف.. الصبر يا عم الحج ما لازم حد يشتري الفراخ عشان نبيع الهياكل.. إحنا بايعين ٣٠ كيلو هياكل النهارده، على العموم بنجهز طلبك جوه. وقفت غير مصدقة أن سعر هياكل الدجاج، أرجل وعظام الدجاج، يباع بـ١٧ جنيها للكيلو، وهو ما كان ذات سعر الدجاجة منذ فترة غير بعيدة. كان عليها الاختيار بين التضحية بعشرات الجنيهات للوفاء بوعدها للأبناء وتسديد عشرين جنيها قيمة القسط اليومي للتاجر الكبير. قررت التفاوض مع التاجر لإعطائه نصف اليومية فقط والاستعاضة عن الدجاجة بكيلو من الهياكل للأبناء حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وفي طريقها إلى التاجر الكبير، مرت بالقهوة الشهيرة في السوق لتشرب بعض الماء، لعلها تجد من يشتري منها باقي الليمون المتبقي من الْيَوْم. "رفع سعر الفائدة هدفه امتصاص السيولة النقدية من السوق لمحاربة التضخم"، هكذا كان رد الخبير الثاني على الأول. يا عم اتلهي، هكذا صاح معلم القهوة من خلف دخان المعسل الذي يشربه.. يعني إيه امتصاص سيولة نقدية يا حج، محدثا رجلا في منتصف العمر يبدو في حديثه قدر من الثقافة والعلم. لما كمية الفلوس في السوق تزيد على الحجم المفروض، ترتفع الأسعار، هكذا أجاب الرجل. "هي فين الفلوس الزيادة دي ماشفنهاش ليه؟" قالها المعلم وارتفعت الضحكات في القهوة وارتفع معها دخان المعسل. اقتربت منهم قائلة؛ كيس الليمون بـ١٠ جنيه وهديهولك بـ٨ عشان خاطرك.. آخر الْيَوم وعايزه أروح يا حج.. أخذ منها ما تبقى معها من ليمون، حيث اعتاد ممارسة عبادة جبر الخواطر، وأعطاها زجاجة مياه غازية كانت أمامه. صحيح الأسعار هاتنزل لما الدولار ينزل يا حج؟ ربنا يفرجها من عنده يا بنتي، أجابها الرجل. ممكن على آخر العام تقريبا؟ سألته مرة أخرى، فأجاب قائلا "أسعار السلع التي تهمك لا تنخفض بسهولة عندما ترتفع". تصور سعر الدجاجة في السوق تعدى الأربعين جنيها؟ لم أجد أمامي سوى الهياكل التي ارتفع سعرها هي الأخرى إلى ١٧ جنيها.. الله يخرب بيت الدولار يا حج، هكذا قالت وهي رافعة يدها إلى السماء.. سألها الرجل، وماذا كُنتُم تأكلون قبل ارتفاع سعر الدولار؟ أجابته في خجل "هياكل برضه"، فضحك الجميع وهنا صاح الخبير من خلف الشاشة قائلا "يجب تطبيق قواعد الحوكمة الرشيدة و...." وقبل أن يكمل، قام صاحب القهوة بتغيير المحطة في ضيق، فظهر المذيع المرموق بصوته الشهير وهو يحث على العمل وبجانبه رجل الأعمال المحترم يشكو قلة العمالة المحلية ويندد بإحجام الشباب عن العمل في مصانعه، ثم ذهب المذيع إلى فاصل فقام القهوجي بتغيير أحجار المعسل للزبائن قبل أن يواصل.