بوابة الشروق
جمال قطب
القضاء «مسئولية ــ مبادئ ــ رجال ــ مهارات» .. الأنبياء والقضاء
رأينا بالأمس كيف وجه الله داوود صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة فتح أبواب المحاكم وآليات الحكم طوال 24 ساعة، وأن مسئولية القضاء والحكم لا تتعطل ولا تراخى حتى بسبب العبادة. فالنبى داوود كان يتهجد عابدا وداعيا، ومع ذلك وجهه الله إلى أن الاشتغال حتى بالعبادة لا يبرر إغلاق باب المحكمة فلابد من دوام ساعات العمل مع وجود نواب ومناوبين للقاضى أو للحاكم.
ــ1ــ
وحينما بدأ الخصمان فى عرض الدعوى على القاضى تكلم أحدهما قائلا: ((إن هٰذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب)).. أى أن أحد الخصمين يصف أخاه بالغنى والثراء ويهمه بالطمع فى القليل الذى يملكه هو ((ولى نعجة واحدة))، ورغم بشاعة التهمة فإن المتهم الحاضر لم يعقب، ومع ذلك سارع القاضى بإصدار الحكم تحت تأثير شكوى المدعى، كما لو كان القاضى قد اقتنع بالاتهام واعتبر صمت الآخر إقرارًا واعترافًا... مع أن أصول القضاء تقضى بـ«لا ينسب لساكت قول» أى أن الساكت لا يعتبر راضيًا بما قيل فلابد أن ينطق ويعبر عن نفسه مبينًا ما فى الاتهام من صدق أو كذب.. وهكذا أصدر القاضى حكمه دون أن يستمع للخصم الثانى فقال القاضى: ((لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه)) واستخرج القاضى قاعدة عامة مفادها: ((وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب)).
ــ2ــ
وما كاد القاضى صلى الله عليه وسلم يفرغ من النطق بالحكم حتى شعر بانصراف الشخصين من أمامه بطريقة فهم منها أنهما ملكان وليسا ببشر، وما دام الله قد أرسل ملكين فلا شك أن الله جل جلاله أراد أن يبصرنا بخطورة خطأ وقع، لذلك أوجب داوود على نفسه سرعة الاستنفار والركوع توبة لله جل جلاله.
ومع سرعة الاعتراف والتوبة تحدث سرعة المغفرة وترتفع درجة الرضا عند الله.. نعم فانظر قوله تعالى: ((وخر راكعًا وأناب * فغفرنا له ذٰلك ۖ وإن له عندنا لزلفىٰ وحسن مآب)).. هكذا كل من يبصر ويعترف ويسعى للتوبة تعاجله رحمة الله ومغفرته وكل الخيرات.
ــ3ــ
ويتابع الوحى تنزله على نبى الله داوود قائلا: ((يا داوود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوىٰ فيضلك عن سبيل الله ۚ إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب)).. هكذا يكتمل درس تعليم الحكم والقضاء: فأولًا التذكير بأن الملك والخلافة هبة وجعل من الله وهذا الجعل يستوجب الشكر، وشكر النعمة يتم بحسن استثمارها.. أى أن شكر الخلافة فى الأرض يتم بتحمل مشاق الناس وخدماتهم وحاجاتهم. وثانيا: التذكير بعدم اتباع الهوى فلا يصلح إغلاق باب القاضى بسبب تطوعك للعبادة. ولا يصح الحكم على متهم دون سماعه وتمكينه من الدفاع عن نفسه. نعم فإن عدم الاهتمام بالمفروض (استقبال الخصوم والاستماع لهم) لا يغفره ركوع أو تسبيح.
وثالثا: التحذير من الابتعاد عن سبيل الله (ما كلفك الله به) وإلا تعرض العبد للعذاب الشديد جزاء نسيانه أنه سيحاسب يوم القيامة على ما كلفه الله به.
هكذا فمهمة القضاء ثقيلة يحملها الرجال الأشداء.. أشداء على أنفسهم وعلى هواهم وعلى إغراءات من حولهم.. وأنا أسأل نفسى هنا: إذا كان اشتغال داوود صلى الله عليه وسلم بالعبادة ليلة واحدة عرضه لهذا الدرس الشديد، فلا يحل لصاحب مسئولية أن يباشر معها أعمالًا أخرى كالبيع والشراء والادخار والتشوق لوظائف أخرى؟!!! اللهم غفرانك
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف