جمال سلطان
من مانشستر إلى بورتلاند .. الإنسانية في محنة شديدة
المقارنة ستكون حزينة للغاية ، بقدر ما هي مؤسفة ، بين حادثتين وقعتا خلال الأسبوع الماضي ، وكان طرفها مسلمون ، إحداهما وقعت في مانشستر ببريطانيا ، والأخرى وقعت في بورتلاند بولاية أوريجون الأمريكية ، إحداهما حصدت تنديدا عالميا واتهامات مروعة ومتجددة للوجود الإسلامي في أوربا بالعنف والكراهية ، والأخرى حصدت تعاطفا دوليا وإكبارا لنبل موقف الضحايا .
في مانشستر كان شاب ليبي مهاجر ، ولد هناك ، حيث كان أبوه مهاجرا فارا من قمع نظام القذافي واستبداده ووحشيته ، ووجد ملاذا في بريطانيا ، حفظ له حياته ومستقبل أولاده ، وتعلموا وعملوا ، قبل أن يعود إلى بلاده بعد انتصار الثورة وخلع الطاغية المجرم ، الشاب صغير السن لعب في رأسه بعض الدهاة من المتلاعبين بعقول الشباب عن طريق تحريك عاطفة الغضب الديني ممزوجة مع أرضية من الجهل وخلفية من الفراغ الثقافي والإنساني ، ليتحول هذا الشاب إلى طاقة تدمير وتخريب وقتل ، فقام "سليمان العبيدي" بحمل حقيبة مشحونة بالمتفجرات لكي يدخل إلى حفل عام وسط بعض الأطفال والنساء والرجال الذين لا يعرفهم ، وربما بعضهم ممن يتعاطفون مع بلاده ومع شعبه ، وربما منهم من تطوع ماليا أو إنسانيا لدعم فقراء المسلمين أو معذبيهم في أرجاء الأرض ، دخل بينهم العبيدي ليفجر نفسه ويفجر هؤلاء معه ، ويرتكب مذبحة مروعة لا صلة لها بالآدمية ولا الأخلاق ولا الدين ، رغم أنه فعل ذلك وهو يتصور أنه يختصر الطريق إلى الجنة ، هكذا أوهمه المتلاعبون بالعقول والمتصيدون للمحبطين من هذا الصنف من الشباب الجاهل وقليل الخبرة والثقافة .
في بورتلاند ، بالولايات المتحدة ، كانت فتاة مسلمة محجبة في محطة للقطار ، تعرض لها رجل أمريكي أحمق وعنصري ، وكال لها الشتائم والبذاءات ، لا لشيء سوى أنها مسلمة أو محجبة ، لم تؤذه في شيء ولم تتعرض له في أي إساءة ، لكنها آفة العنصرية التي تضرب هنا وهناك ، فلما زادت الشتائم قسوة ، تطوع اثنين من الشباب الأمريكي غير المسلم والمتواجدين في المكان لحماية الفتاة المحجبة ومنع هذا العنصري من مواصلة سبابها وإيذائها ، فما كان منه إلا أن أخرج سكينا وطعنهما طعنا قاتلا بلا رحمة ، فقتل أحدهما في الحال ومات الآخر في المستشفى متأثرا بإصاباته .
المفارقة مؤلمة ، ومحزنة ، بين من يضحي بحياته من أجل إنقاذ فتاة مسلمة من اعتداء عنصري ، وبين من يقتل العشرات من النساء والأطفال الذين لا يعرفهم ولم يؤذوه في شيء ، بناء على فتوى جاهلة وساذجة من شخص لا يتميز عنه كثيرا في الجهل وضحالة الثقافة فضلا عن فراغ روحه من الإنسانية .
ربما كان العبيدي أكثر شبها بذلك الأمريكي المجرم الذي اعتدى على محجبة لا يعرفها ولم تؤذه في شيء ثم قتل مواطنيه اللذين حاولا الدفاع عنها ، كلاهما جاهل ، وكلاهما مترع بالكراهية للآخر ، وكلاهما عدو للإنسانية ، بقدر ما هو خطر على الحضارة ذاتها .
المسلمون في بورتلاند تنادوا إلى التبرع لجمع أموال لمواساة أسرتي الشابين النبيلين الذين ماتا دفاعا عن فتاة مسلمة لا يعرفونها ، وحتى ساعات قليلة قبل كتابة هذه السطور كانوا قد جمعوا قرابة سبعمائة ألف دولار أمريكي ، كما شاركت والدة أحد الضحايا في مسيرة شهدتها المدينة للتنديد بالجريمة ، وفي مانشستر أعلنت مساجد المدينة براءتها من جريمة العبيدي ، وتنديدها بما اقترفه ، وارتدى المصلون قمصانا تدعو إلى إعلاء المحبة بين البشر .
مع الأسف ، الأديان اليوم جميعها هي ضحية المتطرفين من أبنائها ، لكن الأديان أيضا هي المفتاح الأساس لمعالجة هذا الخلل الأخلاقي والإنساني والثقافي عند أبنائها ، واتساع نطاق هذه الكراهية والوحشية يجعل العالم كله أمام استحقاق ضروري وعاجل ، لإنقاذ السلام وحماية الإنسانية .