الأهرام
عبد المنعم سعيد
البعض يفضلونها محتلة
لا يحتاج الأمر لأكثر من حديث أو تنويه أو مناسبة تشير إلى احتمال استئناف عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية إلا وتنتفض طائفة من مصر وبقية العالم العربى (المصريون دائما هم الأكثر حماسة)
خوفا وهلعا مما هو قادم باعتبارها كارثة لا قدر الله لها وجودا وهى أن يتم تحرير الأراضى العربية المحتلة. مصدر الخوف هو أن لكل تحرير ثمن، ومادام أنه لا أحد يريد بذل المزيد من الدماء، فلابد أن الثمن سوف يكون التطبيع مع «الكيان الصهيوني»، وقبل وبعد كل شيء ألم يكن هذا ما اقترحته مبادرة السلام العربية أن تقوم على «صفقة كبري»، قبل كل صفقات ترامب، بمبادلة الانسحاب بالتطبيع مع 22 دولة عربية؟. المعارضون لمثل ذلك يرون أن القضية الفلسطينية يمكن إنقاذها بلا تنازل واحد مادام أنها «عادلة» ووراءها مئات من القرارات الدولية الشرعية التى لا تحتاج دليلا بعدها على أن إسرائيل ما عليها إلا أن تقرأها، وبعدها تنسحب وهى صاغرة امتثالا للإرادة الدولية. الحديث هكذا فيه قدر من السذاجة التى تستسلم لعالم ليس له وجود، وتطلب من الدول العربية أن تترك كل ما هى فيه لكى تفعل ما لا يريد الفلسطينيون فعله. بالطبع فإن جماعتنا لا يرون رابطة بين ما يجرى فى المنطقة والحالة الفلسطينية، فلا الضياع السورى والعراقى واللبنانى واليمنى والليبي، ولا قوافل اللاجئين والنازحين والقتلى والجرحى والمدن المدمرة لا يعيد النظر فى أمور القضية المركزية ومستقبلها.

الفصل الحالى من القضية جاء مع فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية، ومعه ولأسباب ليس هنا مجال شرحها فإن الرجل لم يأخذ بالتوجه الذى توصل له سالفه ـ باراك أوباما ـ وهو أن القضية «تاريخية» لا ينفع فيها حل أو عقد لأن أصحابها يهودا وعربا لا يرغبون فى الحل؛ اليهود لأن الأوضاع الراهنة مواتية لهم، ولأن العرب يخافون من السلام والتطبيع. ترامب باندفاعه المعهود قرر أن يعقد اصفقة القرنب بعد أن وجد التوصل إليها اأقل صعوبة مما تصور من قبلب. وبعد أربعة شهور من توليه الإدارة الأمريكية كان الرجل قد وصل إلى الشرق الأوسط بادئا من الرياض لكى يفتح كل الملفات المعقدة على مصراعيها بما فيها القضية الفلسطينية. سبب ذلك انزعاجا كبيرا لكثيرين، لم يخفف منه الفشل المتوالى طوال العقدين الماضيين، فالخوف دائم فربما يكون هناك نجاح، ألم يفعلها السادات من قبل واستعاد الأرضى المصرية المحتلة، وفعلها الملك حسين أيضا واستعاد الأراض الأردنية المحتلة، فماذا سوف يحدث لو قدر لمحمود عباس أن يفعلها هو الآخر ويقيم الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية ؟

الحملة الفورية على الأوضاع الجديدة هى أنها ليست جديدة على الإطلاق؛ ويستطيع المتحدث أن يقدم قائمة طويلة من الأسباب التى تجعل مصير مبادرة ترامب هو الفشل الذى عرفه من قبل أوباما. والحقيقة أن الكثير من الأسباب لها جدارتها الذاتية مثل حالة نتنياهو من أول أفكاره وحتى التحالفات السياسية التى لا تجعله نصيرا للنجاح. ولكن أليس هذا هو موضوع السياسة والمفاوضات والدبلوماسية؟ لقد خسر نيتانياهو قبل أن تبدأ المفاوضات ثلاثة أمور: أن ترامب بات مؤيدا لحل الدولتين بينما كان نيتانياهو يريد فقط بقاء كل شيء على ما هو عليه من احتلال واستعمار، كما أنه أصبح عليه أن يتوقف عن بناء المستوطنات خارج تلك المقامة فعلا على مساحة لا تزيد على 3% من أراضى الضفة، بينما نيتانياهو يريد التمدد حتى يبتلع كل المنطقة «ج»، وفوق ذلك كله أن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس بات معلقا بعد أن كان نيتانياهو يعتقد أن الانتقال بات أقرب إليه من حبل الوريد، وساعتها فإن كل سفارات الأرض سوف تذهب وراء تلك الأمريكية. ألم يكن ذلك نتيجة جهود مصرية وعربية خلال الشهور التى مضت منذ انتخاب ترامب وحتى الآن؟ مثل ذلك سوف ينقلنا فورا إلى حيث كانت الخطيئة الأصلية لقيام إسرائيل، وأن الخلاص لا يكون إلا عندما يكون التحرير من النهر إلى البحر، أى لا حل، وإنما استمرار صراع لا يفعل شيئا إلا تقليص المساحة الفلسطينية، وعمليا تقسيم فلسطين الباقية إلى دولتين: واحدة فى الضفة، والأخرى فى غزة.

والحقيقة أن لا أحد يعلم كيف سوف تبدأ الحركة الدبلوماسية؛ وما نعرفه أن الصفقة فى دور الصنع، وهى مشتقة من المبادرة العربية، وأنها هكذا تقوم بتعريب القضية مرة أخرى كما كانت قبل عام 1967 والتى من بعدها تسلم الفلسطينيون زمام الأمور وكان أكثر ما وصلوا إليه هو اتفاق أسلو الذى منحهم أول سلطة وطنية فلسطينية على أرض فلسطينية فى التاريخ. بعدها جرى توافق غير مكتوب بين اليمين الفلسطينى ممثلا فى حماس واليمين الإسرائيلى على إفساد الاتفاق بمفرقعات حقيقية أو سياسية. الآن انفتح الستار على مبادرات جديدة تمثل فرصة لحالة تعيسة طالت أجيالا متعاقبة محتواها أن الشرق الأوسط لا يستطيع تحمل الحياة التى عاشها ويعيشها خلال السنوات المقبلة. وهناك رئيس أمريكى يعتقد أنه يستطيع أن يفعل ما لم يفعله السابقون، ودول عربية ترى أن القضية الفلسطينية يمكن أن تحل فى إطار عربي، ورغم كل شيء فإن الأغلبية من العرب والإسرائيليين يرون أن السلام أفضل من صراع مستمر يشكل بيئة مزمنة للتطرف. هى فرصة لا أكثر ولا أقل، ومثل كل الفرص فإما تنتهز أو تمر كما مرت فرص كثيرة قبلها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف