الصباح
طارق الطنطاوى
سمك لبن تمر هندى
ووصلنا لختام سلسلة «سمك لبن تمر هندى»، والتى نستدل بها ومن خلال بعض الأمثلة المتماشية مع ذلك التعبير الشهير على معاناة المواطنين من القرارات الغريبة والمتضاربة، والتى قد يكون سببها جهلًا أو عمدًا أو قبضًا.. وبعدما تحدثنا عن السمك واللبن نتحدث اليوم عن التمر هندى باعتباره ممثلًا لياميش رمضان وحاجات رمضان والذى جاء حديثنا عنه متزامنا مع الشهر الكريم.

هذا الشهر الذى يحبه المصريون ويحتفلون به كل عام حيث تمتزج عباداتهم بعاداتهم فتخلق مزيجًا فريدًا يدل على حضارة هذا الشعب الذى يحب حياته ويستعد لمماته منذ قديم الأزل.. لذلك ليس غريبًا أن يحرص المصريون على صيامهم وصلاتهم وقيامهم وزكاتهم وطعامهم وشرابهم ومزاجهم.

ومن طقوس هذا الشهر عند المصريين أن تزخر موائد إفطارهم بما لذ وطاب إن كانوا قادرين.. أو تتزين بما هم محرومون منه طوال العام إن كانوا غير قادرين إما وفرا من مصروفهم أو عطاءً من القادرين.. لذلك أطلقنا عليه الشهر الكريم.. فالكل يأكل ويشرب ويشبع.

لكن يبدو أن المصريين لن يستمتعوا برمضان هذا العام كما كانوا يستمتعون فى السابق.. بعدما قفزت أسعار كل السلع والخدمات قفزات لم يسبق لها مثيل فى فترة قصيرة.. بعدما تم تحرير سعر الصرف منذ سبعة شهور.. قفز الدولار قفزة ضاعفت سعره.. وقفزت أسعار السلع والخدمات قفزتين، وأحيانا ثلاث قفزات وذلك بسبب الممارسات الاحتكارية لكبار المستوردين والمنتجين.

تجاوزت أسعار ياميش رمضان كل الحدود المنطقية.. ذلك الياميش الذى يشمل التمر هندى وقمر الدين والمكسرات، والذى لم يكل المسئولون عنا عن مطالبتنا بالاستغناء عنه منذ عقود مضت باعتباره من الكماليات المحرمة.. مع إن غالبية المصريين لا يقربونه إلا فى شهر رمضان الكريم.. ويبدو أنهم لن يقربوه هذا العام والأعوام القادمة طالما ظلت أسعاره تحلق وتحلق.

كما تجاوزت أسعار باقى السلع الغذائية التى يحتاج إليها المواطنون فى هذا الشهر الكريم قدرات معظم المواطنين مثلما حدث فى اللحوم وتبعها الدواجن والأسماك.. فأصبح البروتين الحيوانى بعيد المنال مثله فى ذلك مثل مكسرات رمضان.. فلجأت الغالبية منهم إلى البروتين النباتى كالفول والعدس فوجدوا أسعارهما قد حلقت هى الأخرى.. اتجهوا إلى النشويات وفوجئوا أيضًا بارتفاع أسعارها تارة واختفائها تارة أخرى.. وتوالى الهروب من مجموعات غذائية إلى مجموعات أخرى أملًا فى لقمة عيش تتناسب مع ما فى الجيوب.

ووسط كل هذا الهرج والمرج.. خرج علينا المسئولون ليبشرونا بزيادة الدعم التموينى للفرد ١٤ ج ليصبح ٣٥ ج بدلا من ٢١ ج ولمدة شهر واحد بمناسبة شهر رمضان.. وعلى الرغم من ال ١٤ ج لم تعد ذات قيمة فهى بالكاد تكفى لشراء زجاجة زيت.. إلا أن القرار فى حد ذاته كان بمثابة بارقة أمل بأن الدولة وبرغم ظروفها الاقتصادية الصعبة ما زالت تشعر بهم.. فها هى تتكلف مليار جنيه من أجل تلك الزيادة البسيطة.. والتى لولا أن عدد المستفيدين منها يتعدى السبعين مليونًا لحصل الفرد على أضعاف ال ١٤ جنيهًا.

لكن كالعادة.. وقبل أن يستمتع المواطنون بتلك الزيادة التى سيحصلون عليها خلال شهر يونيو المقبل.. خرج علينا المسئولون مرة أخرى ليصدموا المواطنين برفع سعر كيلو اللحوم السودانية الطازجة إلى ٨٠ ج بدلًا من ٧٥ ج والمجمدة واللحوم المجمدة من ٥٠ ج إلى ٧١ ج والدواجن المجمدة إلى ٣١ ج بدلًا من ٢٥ ج!!!!

ولاشك أن الأسوأ من هذا القرار هو توقيته الذى أعقب الإعلان عن زيادة الدعم التموينى للفرد.. وكأن الدولة تأخذ بيدها اليسرى ما قدمته يدها اليمنى.. توقيت صدر فى عز تدبير المواطنين لاحتياجات شهر رمضان.. وكأنه لم يكن بالإمكان تأجيله ولو لمدة شهر.. توقيت يؤكد أن حسابات الربح والخسارة باتت هى الحاكمة للقرارات وبغض النظر عن تأثر المواطنين بتلك القرارات.

ولعل الأسوأ من القرار وتوقيته التبرير الذى تم تسويقه لنا بأن رفع الأسعار جاء بسبب ارتفاع أسعار التعاقدات الجديدة.. وهو ما يتعارض مع تصريحات سابقة بأننا قد تعاقدنا على ٨٠٠ رأس ماشية سودانية لمدة ثلاث سنوات (لم تنته بعد).. كما يتعارض مع الأخبار الواردة من الأسواق العالمية بتأثر أسعار اللحوم والدواجن البرازيلية سلبًا بسبب توقف العديد من الدول عن استيرادها بعد الفضائح التى طالت كبرى المجازر هناك.. تلك اللحوم التى أصدرنا قرارًا بوقف استيرادها يوم أربعاء وتم إلغاؤه يوم السبت التالى له.. وكأننا قد تأكدنا من سلامة تلك اللحوم فى الويك إند.

لقد كانت المجمعات ملاذا للمواطنين يلجأون إليها هربًا من نار أسعار منافذ القطاع الخاص.. كانت تلك المجمعات منذ عامين لا تكتفى فقط بتقديم كيلو اللحوم السودانية الطازجة ب ٤٠ ج واللحوم المجمدة ب ٣٠ ج والدواجن المجمدة ب ١٥ ج.. لكنها كانت قادرة على تقديم عروض خاصة أسوة بما تفعله السلاسل التجارية ودون أن يكون ذلك دعمًا أو عبئًا على الدولة.. بل نتاج جهود ناجحة فى الشراء.. لدرجة أن أحد عروضها كان يحمل عنوان «الإفطار عليك.. والسحور علينا».. بمعنى أن تشترى ما تشاء من لحوم ودواجن وغيرهما من أغذية لزوم الإفطار ب ٢٥٠ ج لتحصل كهدية على ما تشاء من بيض وفول وغيرهما من أغذية لزوم السحور بما يعادل ٢٥ ج.

لكن فجأة تبدل الحال.. ولم تعد تلك المجمعات ملاذا لأحد.. وباتت أسعارها مماثلة تقريبًا لأسعار القطاع الخاص.. لذلك لم يكن غريبًا أن نسمع فى تقارير الفضائيات بعض المواطنين وهم يردون على أسئلة تتعلق بارتفاع أسعار بعض أغذية السحور «بلاها السحور».

إن كنا قد وصلنا بسبب قرارات السمك لبن تمر هندى إلى مرحلة «بلاها السحور» فليت أولى الأمر ينتبهون ويولون من هم أصلح قبل أن نصل إلى مرحلة «بلاهاالفطار».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف