البديل
محمد هلال
الأصولية الأمريكية في العهد الترامبي
ليبارك الله أمريكا .. تلك الجملة التي تتكرر علي لسان كل رئيس أميركي سواء كان جمهوريا أو ديمقراطيا تشير إلى أن للدين دور كبير في السياسة الأمريكية، لكن هل هناك تصور واحد للدين في أميركا؟
فترة تأسيس الدولة
لم تتخذ العلمانية الأمريكية في بدايات تأسيس الدولة موقفا معاديا للدين حيث نشأت مؤسسات الحداثة الأمريكية من خلال عمل ثوري يميني ضد الاستعمار تم تتويجه بتأسيس الدولة، فكما يقول هينريش فيلهلم شيفر في كتابه ” صراع الأصوليات، التطرف المسيحي .. التطرف الإسلامي والحداثة الأوروبية “: نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية حداثة تختلف نوعيا عن حداثة أوروبا، كيان ثوري جمعي على أساس تراث إصلاحي حُر كنسيا في ظل فصل مؤسسي بين الدولة والكنيسة.
كانت المسيحية البروتستانتيه متأصلة داخل كلا من الثقافة الأمريكية والقومية الأمريكية إضافة للإيمان بـ”الإستثنائية الأمريكية” التي تحد عنها للمرة الأولي جون وينثروب (1588-1646) حاكم مستعمرة ماساتشوستس، والتي تفترض اختيار الرب لأمريكا كأرض ميعاد جديدة وربطها بمشروع اختبار المهاجرين، فطاعة الرب تجلب الرخاء والسعادة، وبالتالي ظهر ميل لربط الديموقراطية بالعناية الإلهية. ولما كانت أغلب الناس ترى أن الدين هو أساس الفضيلة الأخلاقية لم تشعر النخب داخل المستعمرات بالثقة في السلطات المدنية ولا السلطات الدينية بصفتهم وسطاء الحقيقة الدينية وهو ما هيأ مناخا ملائما لظهور ” الدين المدني “- وهو منظور ديني من عصر التنوير – منح المنطق مقابل الوحي الأولوية الأولى لتفسير إرادة الله، ومن ثم كانت العلمانية الأمريكية، القائمة على الحرية الدينية، حلا وسطا بين كافة الطوائف الدينية المنتشرة في البلاد. فالفصل بين الكنيسة والدولة يساعد علي تلك الحرية وعلى ضمان علاقة الفرد بالله. جاءت تلك الحرية الدينية كما يرى سكوت هيبارد في كتابة ” السياسة الدينية والدول العلمانية” من عدة روافد، من التعددية الدينية الكبيرة في منطقة منتصف الأطلنطي، ساهم في ذلك برجماتية التجار المحليين الذين كان يحركهم الربح أكثر من الدين، ومن خلال المتدينين المثاليين، أمثال روجر وليمز، المؤمنين بضرورة التحلي بحرية الإرادة للوصول للغايات الدينية، إضافة لأفكار التنوير الأوروبية.
رؤيتان متنافستان للأمة الأمريكية
أدت مرحلة التأسيس لظهور رؤيتين متنافستين داخل الأمة الأمريكية. فرؤية “الدين المدني” والتي بنيت على فهم ليبرالي أو عصري للدين إضافة لهوية قومية جامعة لكافة عناصر المجتمع. تلك الرؤية وفّرت العقيدة للجميع وأعطت للحياة العامة معني كما اتفقت مع البرنامج العلماني للتنمية القومية الأمريكية خصوصا ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهي الرؤية التي تم التعبير عنها في الدستور الأمريكي – التوافقي- والذي عُني بحماية الدين وحرية الضمير من التدخل الحكومي، ولم يمنح أفضلية لفئة محددة داخل الدولة.
أما الرؤية اليمينية – الأصولية – فقد ربطت بين مفهوم القومية والعقيدة المسيحية لتظهر قومية دينية مسيحية أكثر جمودا وعدوانية، قامت على رواية مسيحية للتاريخ الأمريكي ( الاستثنائية الأمريكية )، ربطت ما بين الغرض القومي وتنفيذ إرادة الله على الأرض. تلك الرؤية ترفض التقليد العلماني وتعتبر أن العلمانية هي مصدر العلل الاجتماعية المعاصرة. كما ترى أن الترابط المتسق بين الدين والدولة ( تحت مفهوم القومية الأمريكية ) هو شرط أساسي لاسترجاع المجتمع السياسي وإعادة غرس حسا تقليديا بالقيم داخل الحياة العامة الأمريكية. كما يرى أنصار تلك الرؤية أن التحالف الديمقراطي أو الإجماع الليبرالي قد فرض أفكاره وتقاليده داخل مؤسسات الدولة الأمريكية، كتدريس “نظرية التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي” في المدارس العاملة. الأمر الذي يرفضونه بشده حفاظا علي الدين وأخلاقيات المجتمع.
ذلك التباين في وجهتي النظر تضمن رؤى مختلفة عن طبيعة واستخدام السلطة الأمريكية
فبينما رأي أنصار الرؤية العلمانية أن الدين يقدم إطارا أخلاقيا للحد من جور الحكومات. فبما أن الأمة تحت مشيئة الله فهي- أي الأمة- مسؤوله أمام الله علي اختياراتها وقراراتها. رأي اليمين الراديكالي الدمج بين الغرض الديني وأهداف الدولة أو الحزب الحاكم. الأمر الذي وفر تأكيدا كهنوتيا لمصلحة سياسات الحكومة وإذن للعمل نيابة عن الأمة لتحقيق الأهداف الدينية. بهذه الطريقة منح تبرئة للسلطة علي أي قرار قد تتخذه، عسكريا أو اقتصاديا، لأنها، أي قرارات الحكومة، ترتبط بالغرض الإلهي. كما صوّر جورج بوش الإبن غزو العراق بحملة صليبية جديدة جاءه تكليف مباشر بها من الله.
التوظيف السياسي للأصولية الأمريكية
يرى سكوت هيبارد في كتابة السياسة الدينية والدول العلمانية أن انتشار الأصولية (في الدول الثلاث التي ناقشها الكتاب الهند مصر والولايات المتحدة الأمريكية ) يرجع إلى نسق واحد وهو فشل الحكومات في توفير الاحتياجات الإقتصادية لشعوبهم وبالتالي يسعى الحكام، لضمان الاستمرار في السلطة، إلى تحويل الصراعات داخل المجتمع من صراعات أفقيه طبقية اقتصادية، إلى صراعات رأسية ثقافية دينية عرقية، والاستفادة من التوترات داخل المجتمع وتضخيمها أحيانا لغض طرف المجتمع عن المطالب الاقتصادية.
وهو ما بدأ في أمريكا في عهد نيكسون بعد الإنقلاب على (الصفقة الجديدة) التي تحكم الاقتصاد الأمريكي منذ ثلاثينيات القرن العشرين والانحياز للأفكار الاقتصادية النيوليبرالية. تم تصوير القيم الدينية البروتستانتية، باعتبارها قيم محافظة، على أنها قيم أصيلة من الناحية الثقافية وصُوّرت الأفكار الليبرالية والقومية العلمانية بأنها مخالفة للتقاليد الأمريكية. كما تم اجتذاب رجال دين محافظين لدعم نيكسون في حملاته الانتخابية (1968 و1972) . وهي السياسة التي استمرت بعد ذلك حتى حملات بوش الأب والإبن ودونالد ترامب.
طوال القرنين الماضيين كان التوتر بين الرؤية اليمينية الراديكالية والرؤية الليبرالية هو التوتر الوحيد القادر علي التأثير في السياسة الأمريكية، حيث يجتذب الحزب الجمهوري أو الحزب الديمقراطي، وهي البدائل المتاحة، أصوات الناخب الأمريكي إلا أن الأمور باتت أكثر تعقيدا الآن. فكما وضح المخرج الأمريكي اليساري مايكل مور في مقاله الذي تنبأ فيه بفوز ترامب أن هناك حالة سخط وغضب عارمين علي منظومة الحكم برمّتها الأمر الذي يدفع كثير من الناخبين إما للامتناع عن التصويت أو التصويت العقابي لصالح “مرشح الضدّ” للمنظومة وفي هذه الحالة كان هو دونالد ترامب.
أيضا يشير ديفيد جريبر، في كتابه “مشروع الديمقراطية” الذي يؤرخ لحركة “احتلوا وول ستريت” أن هناك تغيرات كبيرة في بنية المجتمع الأمريكي قد تؤثر بشكل مغاير عن المعتاد في الحراك السياسي القادم، فمثلا الطبقة العاملة حاليا لم تعد هي نفس طبقة العمالة القديمة غير المتعلمة المحافظة دينيا بل بات الكثير من العمال حاليا من الشباب المحبطين المتسربين من التعليم الجامعي، بسبب تكلفته العاليه، والساخطين علي النيوليبرالية ونظام الحكم السائد في بلادهم وفي العالم أجمع.
تلك الحالة تضع دونالد ترامب أمام تحديات جديدة لم يعهدها سابقيه من نفس التيار، جورج بوش الأب والإبن، وعلي صعيد أكبر تضع الولايات المتحدة الأمريكية والعالم أجمع أمام احتماليات جديدة تهدد بنية النظام العالمي وتسعى لخلق نظم حكم أكثر ملاءمة لمتطلبات الواقع.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف