عمرو بن الجموح رجل من الأنصار.. استقر نور الإيمان في قلبه وامتلك وجدانه.. نعيش معه رحلته في رحاب الدعوة المحمدية.. هذه الرحلة التي انتهت باستشهاده في سبيل الله مفضلا طريق الجهاد والحياة الآخرة علي رغد العيش مع أبنائه المحبين له والبارين به امتثالا لقيم الدين الحنيف.. ورحلة هذا الرجل مليئة بالوقائع المثيرة والشيقة بما يحفز أي متابع لها أن يرافقه في تلك الرحلة الممتعة.. ويقول ابن الأثير في كتابه "أُسد الغابة في معرفة الصحابة": إن عمرو بن الجموح يرجع نسبه إلي بني جشم بن الخزرج شهد العقبة وبدرا.
في مقدمة الوقائع التي جاءت بمسيرة حياته أن عمرو قدم مع وفد من الأنصار إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ويضم رجالا من بني سلمة وقد سألهم الرسول قائلا: من سيدكم يا بني سلمة؟ فقالوا: "الجد بن قيس علي بخل فيه" وهنا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: وأي داء أقبح من البخل بل سيدكم الجد الأبيض عمرو بن الجموح وهنا قال الشاعر: وقال رسول الله والحق قوله.. لمن قال منا من تسمون سيدا
فقالوا له: جد بن قيس علي النبي.. فبخله فيها وإن كان أسودا
فسود عمرو بن الجموح لجوده.. وحق لعمرو بالندي أن يسودا
إذا جاءه السؤال أذهب ماله.. وقال: خذوه إنه عائد غدا
عمرو بن الجموح كان سيدا من سادات بني سلمة: ابنه معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل في فتيان منهم وكانوا ممن شهد العقبة ومن الطرائف التي تتردد عن عمرو بن الجموح أنه قبل إسلامه كان لديه صنم يحتفظ به في بيته. فكان الشباب يدخلون ليلا ويحملون الصنم فيطرحونه في حفرة بني سلمة التي تضم مخلفات هذه القبيلة ويتركونه منكسا علي رأسه فإذا أصبح عمرو وجده علي هذه الحالة قال: ويلكم ثم أخذه ونظفه ثم طيبه برائحة من الروائح الموجودة لكنهم كرروا هذا العمل مرات بعد ذلك وفي كل مرة كان ينظفه وفي آخر مرة نظفه ثم علق السيف في رقبة الصنم وخاطبه قائلا: إن كان فيك خير فامتنع. هذا السيف معك. ثم تركه كعادته كان معتقدا أن هذا الإجراء سوف يدفع عنه هذه الأفعال السيئة.
لكن هؤلاء الشباب كانوا يراقبون تحركات عمرو وما يفعله مع صنمه وكالعادة ليلا دخلوا لمنزل عمرو وأخذوا من عنق الصنم السيف ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه بحبل ثم قاموا بإلقائه في بئر من آبار بني سلمة فيها مخلفات القوم. وعندما عاد عمرو فلم يجده فخرج يبحث عنه حتي وجده مقرونا بكلب. فلما رآه استيقظ رشده وعاد إليه ذكاؤه مدركا أن الصنم لا يضر ولا ينفع ولو أنه كان يدرك لدفع الأذي عن نفسه وفي هذه اللحظات التقي عمرو ببعض الذين أسلموا من قومه علي يد رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وتحدثوا معه عن هذا الدين الحنيف فأسرع نحو الرسول وأسلم وحسن إسلامه.
عمرو حين أسلم وعرف من الله ما عرف وهو يذكر ذلك وما شاهد من أمره أخذ يشكر الله الذي أنقذه من هذا العمي والضلال ثم أنشد يقول مخاطبا صنمه متذكرا تلك المأساة التي غاب فيها عقله ومما قاله في هذا المقام.
تالله لو كنت إلها لم تكن.. أنت وكلب وسط بئر في قرن
ثم أخذ يشكر الحق تبارك وتعالي الذي أنقذه من طريق الضلال والعمي وأنشد يقول:
فالحمد لله العلي ذي المنن.. الواهب الرزاق وديّان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن.. أكون في ظلمة قبر مرتين
هذه نقلة في حياة عمرو بن الجموح.. وشتان بين الهدي والعمي يقول ابن الكلبي: كان عمرو آخر الأنصار إسلاما ولما طلب الرسول الكريم - صلي الله عليه وسلم - الناس بالخروج للجهاد يوم بدر أراد عمرو الخروج لكن أبناءه منعوه من التوجه للمشاركة في هذه الغزوة وذلك لإصابته بعرج شديد في رجله فعاد إلي القعود في بيته غاضبا لعدم إتاحة الفرصة له للجهاد. ومضت الأيام سريعا وحان الوقت للذهاب لمعركة أحد فخرج عمرو متلهفا من أجل أن يشارك مع المجاهدين في أحد. وفي نفس الوقت توجه نحو أبنائه قائلا: لقد منعتموني من الخروج إلي بدر فلا تمنعوني الخروج إلي أحد. لكنهم رفضوا قائلين: إن الله قد عذرك واستمروا في موقفهم.
لكن عمرو لم يهدأ له بال فتوجه إلي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله إن أبنائي يريدون أن يحبسوني عن الذهاب معك إلي أحد وأضاف في لوعه: والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة!. فقال له الرسول - صلي الله عليه وسلم - أما أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك. ثم قال الرسول - صلي الله عليه وسلم - لأبنائه: لا تمنعوه. لعل الله أن يرزقه الشهادة. هنا تهلل عمرو فرحا ثم أخذ سلاحه ومضي إلي المعركة يردد فيما بينه وبين نفسه قائلا: اللهم لا تردني إلي أهلي خائبا. كل همه أن يظفر بمكانة الشهادة في سبيل الله. وقد حقق الله رجاءه واستشهد في القتال مع المشركين ومن المصادفات أنه دفن هو وعبدالله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبدالله في قبر واحد. وكان الاثنان صهرين متصافيين. فقد جاءت هند بنت عمرو زوجة عمرو بن الجموح عمة جابر بن عبدالله فحملت زوجها وحملت آخاها بعد أن نالا الاثنان الشهادة واحتواهما مكان واحد. وقد توج الرسول صلي الله عليه وسلم عمرو بن الجموح بوسام ناله عن جدارة حيث قال - صلي الله عليه وسلم - "والذي نفسي بيده لقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته" ذلك الفضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده.