جمال قطب
القضاء «مسئولية ــ مبادئ ــ رجال ــ مهارات».. الأنبياء والقضاء
قد يسأل المسلم نفسه: هذا شاب برىء، وهو مشروع نبوة. فكيف يدخل السجن دون ذنب؟ أم أن هناك ذنبا آخر قد ارتكبه الفتى غير تلك التهمة الملفقة له من زوجة العزيز والعزيز.. تلك التهمة الزور التى أدخل بها السجن إما بموافقة القضاء، وإما بتقاعس القضاء عن واجبهم الشرعى فى الاطمئنان على الحريات بصفة عامة، والتأكد من خلو السجون من المظلومين، وهذا التأكد هو الجزء الأكبر فى مسئولية مؤسسة القضاء بأكملها وليس مسئولية قاضٍ مختص.. فالعدوان على الحريات أو سوء استخدام السلطات أو تقييد حرية شخص واحد يعتبر «بقعة سوداء» فى ثوب القضاء الأبيض.
ــ1ــ
الأقدار الغيبية تتدخل – «والله غالب على أمره» ــ فإذا الملك يرى مناما (حلما) يزعجه ويلح فى طلب المفسرين والمعبرين، وهنا يتذكر الساقى الذى خرج من السجن بعد أن بشره يوسف.. يتذكر الساقى هذا الكيان الضخم: فتى شديد الحلم عظيم الحسن يحوطه الهدوء والسكينة والعلم. إنه يوسف الذى فسر له الرؤيا وصدق فى تفسيره.. فيرفع الخبر إلى الملك فانظر كيف تكون رؤيا منامية سببا فى إخراج المظلوم من السجن بل وفى رفعه إلى أريكة المسئولية. فما أن سمع الملك عن هذا العليم بتفسير الرد حتى أرسل إليه من يستدعيه.. لكن الفتى المظلوم غير شغوف بحريته بل هو أكثر شغفا بمقاومة رذيلة «الكذب والزور».. فها هو السجين المظلوم يقول ((رْجِعْ إِلَى رَبِكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِسْوَةِ اللاتِى قَطَعْنَ أَيْدِيَهُنَ إِنَ رَبِى بِكَيْدِهِنَ عَلِيمٌ)). نعم فلابد من تطهير المناخ من عوامل الكذب والتزوير إلخ.. وسارع الملك يشكل لجنة التحقيق وتقصى الحقائق وكان ما كان.
ــ 2 ــ
وصل التحقيق إلى امرأة العزيز فأيقنت أن الحق ظهر ولا سبيل لإنكاره، وتذكرت أن يوسف كان يدعو إلى الصدق والحق، فأعلنت المرأة قائلة: ((.. الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَهُ لَمِنَ الصَادِقِينَ * ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَ اللَهَ لَا يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ)). وهنا تقرر إعلان براءة يوسف وتزوير المسئولين الذين فعلوا فعلتهم وشاع مناخ عام سماته التوبة والنظافة وشعار الجميع فيه ((وَمَا أُبَرِئُ نَفْسِي إِنَ النَفْسَ لَأَمَارَةٌ بِالسُوءِ إِلَا مَا رَحِمَ رَبِى ۚ إِنَ رَبِى غَفُورٌ رَحِيمٌ )).
ــ 3 ــ
اقتنع الملك بكفاءة يوسف وعلمه وعرض عليه منصب المستشار ((وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَا كَلَمَهُ قَالَ إِنَكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)). ومنصب المستشار السياسى منصب ضخم دون مسئولية.. فكل ما عليه إبداء المشورة وليس مسئولا عن اتخاذ القرار، فهو منصب مريح لمن يحب «المناصب والراحة» أو من يحب المناصب مع عدم المسئولية، لكن الفتى يرفض تلك الراحة ويرشح نفسه لتحمل المسئولية فى وقت الأزمة الثقيلة على البلاد... فرؤيا الملك تنذر بأزمة اقتصادية غير مأمونة العواقب، ومع ذلك يقول يوسف: ((قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِى حَفِيظٌ عَلِيمٌ)).. اجعلنى وزيرا مسئولا أمامك وأمام الشعب عن تحمل تجنيب البلاد المجاعة وما يتبعها من مشاق الجشع ــ الطمع ــ السرقة ــ قطع الطريق ــ ارتكاب الحرمات ــ انفلات الأمن إلخ..
ــ 4 ــ
أليس غريبا أن يطلب من كان سجينا بالأمس أن يصبح وزير تموين مسئولا عن غذاء الشعب فى (مصرــ اليمن ــ سوريا)، فتلك كلها دولة كانت واحدة يحكمها ملك مصر فى ذلك الوقت.
وانظر إلى يوسف لا يقدم مسوغات لطلبه أنه من عائلة كبرى وأنه ابن يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم.. بل يقدم بيانا بحالته وقدرته ((قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِى حَفِيظٌ عَلِيمٌ)). «حفيظ» أى أمين لا أنقص حق أحد، ولا أعطى أحدا فوق ما يستحق، و«عليم» عليم بفنون التنظيم والإدارة والتخزين والادخار، كما أنى عليم بفنون الحساب والإحصاء والكيل والميزان.. «عليم» بحقوق الأطفال/ المهاجرين/ الفقراء/ الأغنياء/ أصحاب الوظائف.. إلخ.
هكذا كان القضاء الظالم سببا فى سجن يوسف.. لكن سجن يوسف كان سببا فى وصوله إلى عرش مصر.. فاللهم إنا ننشد العدل فإن وقع من البعض ظلم فنحن مع رفضنا للظلم نستسلم للقدر الإلهى فإنه سفينة النجاة.