الوطن
محمد صلاح البدرى
نفيسة العلم!
لم يستقم الحكم فى مصر فى عصر الدولة العباسية كما كان فى عهد الأمويين.. فقد دخلت مصر إلى العهد العباسى محملة باضطرابات كثيرة، بسبب ولاء الشعب للأمويين أكثر من اطمئنانهم لبنى العباس.. ولم لا وقد شهدت البلاد فى عصر الأمويين طفرة اقتصادية ملحوظة.. وانخفضت الضرائب بشكل كبير فى أواخر عصر الدولة الأموية!

وفى العهد العباسى تحولت حاضرة مصر إلى مدينة المعسكر التى أنشأها صالح بن على العباسى، ومع ذلك لم يستقم أمرها لبنى العباس أبداً، إذ شهدت البلاد العديد من حركات التمرد، كتلك التى قادها دحية بن مصعب بن الأصبغ بن عبدالعزيز بن مروان، وهو من بقايا بنى أمية، الذى خرج فى صعيد مصر سنة 781م على أميرها إبراهيم بن صالح، ومنع الضرائب.. وعظم أمره حتى إنه دعا لنفسه بالخلافة وبايعه كثير من وجوه مصر.. وعلى الرغم من فشل تلك الحركة الانفصالية بعد هزيمة دحية وقتله.. إلا أن مصر ظلت ملاذاً آمناً لكل المهاجرين بعيداً عن بنى العباس من بنى أمية.. أو من العلويين.. والذين كان على رأسهم إسحق بن جعفر الصادق.. وزوجته.. التى شرفت مصر بها.. نفيسة بنت الحسن!

إنها نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن على بن أبى طالب.. ولدت فى مكة فى 11 ربيع الأول 145 هـ، وانتقل بها أبوها إلى المدينة وهى فى الخامسة؛ فكانت تذهب إلى المسجد النبوى وتستمع إلى شيوخه، وتتلقى العلم من علمائه، حتى لقبها الناس بلقب «نفيسة العلم» قبل حتى أن تصل لسن الزواج. وقد تقدّم الكثيرون للزواج من نفيسة لدينها وعبادتها، إلى أن قبل أبوها بتزويجها بإسحاق المؤتمن بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، وفى سنة 193 هـ، رحلت نفيسة مع أسرتها إلى مصر بعد أن ضيق العباسيون عليها وعلى زوجها فى المدينة، فاستقبلها أهل مصر بترحاب شديد وسعادة غامرة.. كانت السيدة نفيسة مصدراً للعلم لا يمكن تركه للمصريين المتعطشين للتعلم.. فأقبلوا عليها يلتمسون منها العلم حتى كادوا يشغلونها عما اعتادت عليه من عبادات، فكان أن خرجت عليهم قائلة: «كنتُ قد اعتزمت المقام عندكم، غير أنى امرأة ضعيفة، وقد تكاثر حولى الناس فشغلونى عن أورادى، وجمع زاد ميعادى، وقد زاد حنينى إلى روضة جدى المصطفى»، ففزع المصريون لقولها، ورفضوا رحيلها، حتى تدخَّل والى مصر السرى بن الحكم وقال لها: «يا ابنة رسول الله، إنى كفيل بإزالة ما تشكين منه»، فوهبها داراً واسعة، وحدد يومين فى الأسبوع يزورها الناس فيهما طلباً للعلم والنصيحة، لتتفرغ هى للعبادة بقية الأسبوع، فرضيت وبقيت. لقد ماتت السيدة نفيسة فى عام ٢٠٨ هجرية بعد مرض أصابها.. فبكاها أهل مصر، وحزنوا لموتها حزناً شديداً، وكان يوم دفنها مشهوداً، ازدحم فيه الناس لتشييعها!

لقد أراد القدر أن ترتبط السيدة نفيسة بمصر فى حياتها.. وأن تدفن فى أرضها لتباركها إلى يوم الدين.. وأراد القدر بمصر أن تبقى ملجأ وملاذاً دائماً.. لمن طلبها!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف