الأهرام
عبد الرحمن سعد
لعلَّه آخر رمضان
مع بداية رمضان، يوم السبت الماضي، عُدتُ بذاكرتي إلى عام مضى؛ مستذكرا أصدقائي وجيراني، ممن شهدوا معي هذا الشهر نفسه، في العام الماضي؛ فاكتشفت أن الموت قد غيَّب كثيرين منهم هذا العام، وبينهم الكبير والصغير، والصحيح والسقيم، ومن كانت وفاته صدمة، أو موته بغير علَّة.
لعلَّه إذن آخر "رمضان" في حياتي، ولعلَّ إلحاح ذلك الخاطر عليَّ، يدفعني دفعا إلى أن أتعامل مع رمضان هذا العام، كما لو أنه لم يعد في قوس الحياة منزع.

ومما يضاعف من إحساسي برمضان، ويدخل على روحي الشعور بدفء الإيمان، وحلاوة الطاعة، ولذة الأنس بالله؛ إدراك عظيم نعمته تعالى على بلوغه، وهو، سبحانه، يُضاعِف فيه ثواب العبادات، والطاعات، والأعمال الصالحات.

وأولها: الجهاد، إذ لم يشهد شهرٌ من معارك الجهاد في سبيل الله، والفتوحات والانتصارات الإسلامية الكبرى، مثلما شهد، ففيه تكونت أول سرية في الإسلام بقيادة النبي، صلى الله عليه وسَلَّم، وحدثت غزوة بدر، وتم فتح مكة، وفتح الأندلس، ومعركة عين جالوت، التي أوقفت تقدم التتار في المنطقة، يوم 25 رمضان 658.

هذا فضلا عن عبور قناة السويس، وتحطيم خط بارليف، والقضاء على أسطورة الجيش "الإسرائيلي" الذي لا يُقهر، وذلك في العاشر من رمضان 1393هـ، وغيرها من الأحداث الجهادية الكبرى، في تاريخ المسلمين، مما وقع بهذا الشهر.

وقد ثبت في صحيح مسلم، من حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وكان يجتهد في العشر (أي: الأواخر منه) ما لا يجتهد في غيرها".

وثانيها: الصيام، إذ ورد فيه قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".(البقرة: 183).

وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "قال الله عز وجل: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به". (رواه البخاري ومسلم).

وثالثها: الصلاة، لا سيما قيام الليل، إذ ورد فيها عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". (رواه البخاري ومسلم).

ورابعها: الصدقة، إذ قال العلماء إنها في رمضان أفضل منها في غيره، مستندين إلى إكثار النبي، صلى الله عليه وسلم، منها في هذا الشهر، كدليل واضح على ذلك.

ففي الصحيحين من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما: "كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ، حين يلقاه جبريل، فيدارسه القرآن، فلرسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، حين يلقاه جبريل، أجودُ بالخير من الريح المرسلة".

وخامسها: قراءة القرآن، إذ بدأ نزول الوحي في رمضان. قال تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ". (البقرة: 185).

ومن هنا كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتدارس القرآن مع جبريل في رمضان، في كل سنة مرة، فلما كانت السنة التي قُبض فيها؛ دارسه القرآن مرتين.

وهذا ما رواه البخاري في صحيحه، عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، إذ قال: "وكان (جبريل) يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن"، كما سبق الحديث.

وسادسها: صلة الرحم، إذ حث الإسلام عليها مطلقا، وجعلها في رمضان أمرا واجبا، باعتبارها "وصلا" لما أمر الله تعالى به أن يُوصل.

قال سبحانه: "وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ". (الرعد:21) .

وفيها قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "الرحم معلقة بالعرش، تقول: "من وصلني وصله الله، ومن قطعنى قطعه الله". (رواه البخاري ومسلم).

إن العاقل ينتهز شهر رمضان في فعل الطاعات، واجتناب المحرمات، كما لو كان يعايش آخر "رمضان" في حياته، فيبادر نفسه بالأعمال الصالحة، والعبادات الكبرى، والاجتهادات العظيمة؛ لا سيما أن ثوابها يُضاعف فيه.

ويبقى شكر الله، أولا وأخيرا؛ بلا حدود، على نعمة الشعور برمضان، والإحساس بقدره.. كيف لا، وفيه ليلة: "خير من ألف شهر"؟.

قال تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ".(القدر:1-5).

وبحسب العلماء: "جمعت هذه السورة بين فضائل عدَّة لليلة القدر، منها أن الله تعالى أنزل في فضلها سورة كاملة تُتْلَى إلى يوم القيامة، وأنه تعالى أنزل فيها القرآن: هداية وسعادة للبشر، وأنها خير من ألف شهر، وأن الملائكة تتنزل فيها بالخير، وأنها سلام، لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب؛ بما يقوم به العبد من طاعة".

والأمر هكذا، ثبت عن أبي هريرة، رضي الله عنه، في فضائلها؛ ما رواه: أن النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف