التحرير
أحمد بان
مع العارفين - ابن عربى
مع شهر رمضان المعظم، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، قد يكون من المفيد أن نحلق فى تلك السياحة الروحية، نتعرف فيها على أحوال بعض العارفين، الذين مهدوا لنا المسالك إلى معرفة الله تبارك وتعالى، ومن أبرز هؤلاء الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى أو محيى الدين محمد بن على بن محمد بن عربى الحاتمى الطائى الأندلسى، أشهر المتصوفة الذى ولد فى الأندلس عام 558 هـ، وتوفى فى دمشق عام 638 هـ، لقب بسلطان العارفين والبحر الزاخر وبحر الحقائق والكبريت الأحمر، وغيرها من الألقاب التى وثقت حضوره الطاغى فى تاريخ العرفان والتصوف. ثار جدل كبير وواسع حول الرجل، حول شخصه ومنهجه وكتبه منذ عصره وحتى اليوم، وهو حال كل من سبق عصره وقد أنجز عددا كبيرا من المؤلفات، قيل إنها تصل إلى مئتى مؤلف من أشهرها وأكثرها تأثيرا الفتوحات المكية، حتى عرف بصاحب الفتوحات والوصايا والتفسير وفصوص الحكم، فضلا عن ديوانين من الشعر. اختلف الناس فى الرجل بين من اعتبره قديسا ومن عده إبليس، وبشكل عام يكاد يجمع السلفيون تحديدا على تكفيره واعتباره من الملاحدة، واتهامه بالإيمان بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، بالرغم من أن ابن تيمية شيخ السلفية كان يتأول كلام ابن عربى ولم يحكم بكفره أو إلحاده، لكن لغة ابن عربى ومضامين كلامه العميقة والمتفردة تأبت على الذوق السلفى، الذى ناصبها العداء واتهم صاحبها بالكفر والإلحاد، وبالحديث عن كتابه "الفتوحات المكية" الذى اعتمد عليه الكثيرون فى إلصاق حكم الكفر والإلحاد به لما تضمنه من أفكار حول الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، فنحن أمام شهادتين يجليان هذه الحقيقة التى التصقت بكتابه.

وردت الأولى على لسان الإمام عبد الوهاب الشعرانى الذى يقسم بالله إنه رأى شيخا عالما عارفا من اليمن عنده النسخة الأصلية من الفتوحات المكية، وقد قرأها للشيخ الشعرانى والتى أكد أنها خالية من كل الكفريات التى أخذت على الشيخ والتى أكد فيها أن الله بائن عن خلقه. ووردت الثانية عن الشيخ محمود أبو الشامات، من علماء الشام الأعلام، حيث يروى أن ابن عربى أتاه فى المنام قائلا له: لِمَ لا تذبُّ عنى؟ أى لِمَ لا تدافع عنى، إنهم يتهموننى بأفكار وحدة الوجود وأنا برىء منها، وتلا عليه قصيدة طويلة حفظها الشيخ ورددها بعد يقظته وفوق ذلك وقبله نص كلام الشيخ ابن عربى فى مقدمه كتابه "الفتوحات المكية" ما يعد الدليل الناصع على عقيدته يقول "يا إخوانى ويا أحبابى أشهدكم أنى أشهد الله تعالى وأشهد ملائكته وأنبياءه ومن حضر أو سمع، أنى أقول قولا جازما بقلبى: إن الله تعالى واحد لا ثانى له منزه عن الصاحبة والولد، مالك لا شريك له، ملك لا وزير له صانع لا مدبر معه موجود بذاته من غير افتقار إلى موجود يوجده، بل كل موجود مفتقر إليه فى وجوده فالعالم كله موجود به (أى وجد بإيجاد الله له) وهو تعالى موجود بنفسه لا افتتاح لوجوده ولا نهاية لبقائه، بل وجوده مطلق قائم بنفسه، ليس بجوهر فيقدر له المكان ولا بعرض فيستحيل عليه البقاء ولا بجسم فيكون له الجهة والتلقاء مقدس عن الجهات والإقطار، استوى على عرشه كما قاله وعلى المعنى الذى أراده كما أن العرش وما حواه به استوى وله الآخرة والأولى، لا يحده زمان ولا يحويه مكان، بل كان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان، لأنه خلق المتمكن والمكان وأنشأ الزمان، تعالى الله أن تحله الحوادث أو يحلها، أو تكون قبله أو يكون بعدها، بل يقال كان ولا شىء معه، إذ القبل والبعد من صيغ الزمان الذى أبدعه، فهو القيوم الذى لا ينام والقهار الذى لا يرام، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير، ثم قال التأبيد للمؤمنين فى النعيم المقيم والتأبيد للكافرين والمنافقين فى العذاب الأليم حق. ومما قاله فى نفس المقدمة أن "ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد ومن قال بالحلول فدينه معلول" كل تلك الكلمات تبرئ الشيخ، رحمه الله، من عقيدة الوحدة المطلقة، ومن عقيدة الحلول خلافا لما يظنه البعض وقد دست على الرجل كلمات وعلى كتبه هو برىء منها، فقد كان صاحب منهج فى الإصلاح يسوق القلوب إلى ربها بيسر وعلم عبر كلمات موجزة حكيمة ومواقف فى السلوك واضحة ولم ينتقد الشيخ أحدا ممن عاصره من العلماء كابن رشد وفخر الدين الرازى وصدر الدين القونوى والعز بن عبد السلام وفريد الدين العطار وشهاب الدين السهروردى أبى الحسن الشاذلى جلال الدين الرومى، ومن يتأمل بعض أقواله يدرك علو كعبه فى علوم السلوك والتربية منها العارف من يرى الحق فى كل شىء بل فى كل شىء عين كل شىء "لن تبلغ من الدين شيئا حتى توقر جميع الخلائق" الحر من ملك الأمور بأزمتها .. ولم تملكه وصرفها ولم تصرفه، لا راحة لك من الخلق .. فارجع إلى الحق فهو أولى بك.. العالم هو اعتراف متبادل بالوجود بين الله والإنسان عبر العقل، ثم يدعو إلى عدم الاغترار بهذا العقل مصدرا وحيدا للحقيقة فيقول العقل أفقر خلق الله فاعتبروا فإنه خلف باب الفكر مطروح.. إن العقول قيود إن وثقت بها خسرت وافهم فقولى فيه تلميح. ونختم بأشهر أقواله التى تحولت إلى مثل ونشيد للعارفين: أدين بدين الحب أنَّى توجهت .. ركائبه فالحب دينى وإيمانى ما أحوجنا فى تلك الأيام أن نتمثل أقوال هذا العارف بالله الذى جعل الحب دينا وإيمانا حبا للإنسانية التى شقيت بالكراهية تحت رايات زائفة تدعى نصرة الأديان، والأديان منها براء، هى دعوة للحب فى هذا الشهر دعوة لاكتشاف إنسانية هذا الدين، التى شوهها شذاذ الآفاق من جعلوا الدين كراهية ووحشية وصراعا تتعانق كلمات الحب عند ابن عربى مع كلمات المسيح عليه السلام أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم. رمضان شهر الحب، فحاولوا أن تعيشوه بتلك المعانى الحقيقية.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف