كنا نظن أننا بعد القيام بثورتين سوف نعيد صياغة المشهد السياسى والإعلامى والثقافى والاجتماعى، بأن نقوم بعملية فرمتة لواجهة مصر، ننظفها من المؤلفة جيوبهم، والمؤلفة جيوبهم ليست محصورة فيمن يفتح جيبه فقط لتلقى الأموال والهدايا من أى جهة أو شخص، بل تشمل جميع من يعلون مصالحهم الشخصية على مصالح الوطن والمواطنين.
المؤلفة جيوبهم مجموعة من الأشخاص تسخر نفسها للغير بمقابل ولأنفسهم، تجدهم فى النخب السياسية، والإعلام، والصحافة، والفن، وغيرها من المهن، دائما فى مقدمة المشهد، ينتقدون، ويمدحون، ويبايعون، ويباركون، ويهاجمون، ويروجون، ويبررون، حسب الموقف، والمشهد، والفترة الزمنية، وحسب الوسيلة التى يطلون علينا منها.
قبل ثورة يناير أسميت بعضهم بــ«القوالون»، ومفردها «قوال»، لقدرته الفائقة على القول حسب الموقف، والحضور، والزمن، والظروف، والعادات، ما يقوله فى مكان يمكن أن يقول عكسه فى مكان آخر، وفى ظرف مغاير.
أطلق البعض عليهم «المنافقون»، وبعد الثورة عرفوا بـ«المتحولون»، وفى توصيف آخر بـ«النخب الفاسدة»، وفى تعبير «الأفاقون»، وفى ثالث بــ«المخبرون».
منذ أيام حاولت حصر الأوصاف التى أطلقت عليهم، واكتشف صعوبة المحاولة، لأن القاموس العربى والمصرى ملىء بالكلمات التى تشير إليهم، لكن لا أخفى عليكم، اتضح لى أنه رغم كثرتها يعبر معظمها عن بعض الصفات وليس جميعها، وأنه من الضرورى البحث عن مصطلح يعبر بشكل منضبط ومحكم عن جميع خصال الشخصيات التى تربت فى صناديق الأجهزة، وتلعب فى المشهد لصالح الغير ومن أجل مصالحها، وبعد فترة من التأمل والتدبر اتضح لى أنه ليس هناك أفضل من مصطلح «المؤلفة جيوبهم»، لكننى توقفت كثيرا عند الجيوب، لأنه للأمانة أغلب هؤلاء لا يفتحون جيوبهم، بل يسعون نحو تحقيق بعض المكاسب الأدبية، وبعضهم سعى لتحقيق مصالح الغير، وفى الطريق سلَّك لنفسه بعض المكاسب، وللأمانة أيضا هناك البعض ممن لم يتربوا فى صناديق الأجهزة، ويحاولون بقدر المتاح لفت نظرها والتقرب منها لتحقيق ما يطمحون إليه.
على أية حال الجيوب لم تصنع لوضع الأموال فقط، بل تتسع لكل شىء، والباحث عن مصالح شخصية، مالية أو أدبية، فهى فى النهاية تعود إلى جيوبه، الوظيفة أو المنصب يترتب عليها بعض الأموال تدخل حسابه الشخصي، تسخير القلم أو البرنامج أو اللسان لتحقيق أجندة آخر يتم بمقابل، والمقابل فى النهاية يترجم إلى أموال.
للإنصاف المشهد أصبح مزدحماً جداً، بعض المؤلفة القدماء، وبعض المؤلفة الذى ظهرا بعد الثورة، واللافت أنهم تآلفوا وتوحدوا بحكم المصالح والتشابه فى الوسيلة والمسعى، وبحمد الله أصبح لهم الغلبة، ونجحوا فى السيطرة على المشهد، وأمسكوا بدفة الرأى العام، صحيح أنهم أقلية، وصحيح أن المواطن البسيط يعرفهم جيدا، لكن للأسف النظام ارتضاهم وسخرهم للترويج، والتبرير، والتوجيه، والتشويه، ولم يعد أمامنا سوى أن نتضرع إلى الله أن يكشف عنا الغمة، وأن ينجينا وينجى أولادنا وبلادنا من القلة المارقة البارقة المعروفة بـ«المؤلفة جيوبهم».