التحرير
أحمد شمس الدين
صومًا مقبولًا و قتلًا شهيًّا!
أعلم أن غض البصر فضيلة، ولكنها دائما ما بدت لي كأنها استثناء. فلا أظن النور يغضبه إن أدرك العبد إشراقة الضياء. قبطية الأصل، صوفية الهوى، صوتها سلام ورقصها صلاة. على ضي صليبها الذهبي الصغير بحثت عن ذاتي، وفي محراب أبيها صليت على مولاي وشفيعي. تحيا جمهورية مصر العربية، هكذا كنّا نهتف كل يوم تحت العلم الكبير في فناء المدرسة. هتاف واحد وزي واحد لم ينل من تناسقه سوى تلك الزمزمية الخضراء مربعة الشكل صغيرة الرأس المتدلية من فوق أكتافنا. كان لها فقط لونان، وكان الأخضر أخف الضررين. كم كنا أبرياء نسعد بأبسط الأشياء. خيارات محدودة ونفوس راضية... ما زلت أذكر روتين تلك الأيام المبهجة؛ اخترنا لك مساء كل أربعاء، والفيلم العربي القديم مساء الخميس، وعالم الحيوان ظهر الجمعة ونادي السينما مساء السبت. ستبقي موسيقى العلم والإيمان ومقدمة برنامج الشيخ الشعراوي ومسلسلات أسامة أنور عكاشة ومحمد فاضل جزءًا من ذاكرتنا وتكويننا. ما زالت تغضب كلما ذكرتها برقصتها الطفولية في افتتاح بطولة الألعاب الإفريقية عام ١٩٩١. ولن تُمحى من ذاكرتي لحظات الخوف والقلق التي عشناها معا وقت زلزال ١٩٩٢ وكيف تبدل الخوف إلى فرحة عندما علمنا بإغلاق المدارس لأجل غير معلوم.. كم كانت جميلة تلك اللحظات التي قضيناها معا في المدرسة والجامعة وفي كل شارع من شوارع مصر الجديدة. تشاركنا الفرحة والقلق والحزن والإحباط. كان هتافها ترانيم حرية في ٢٠١١، أبهرتني شجاعتها واندفاعها في الحق. لم أكن قد رأيتها في أي مظاهرة من قبل. قرأنا معًا ولأول مرة كتبًا عن تاريخ الحياة السياسية في مصر وعن الإخوان المسلمين وعن الجماعات الأصولية... أحبطتنا الهزيمة الساحقة للقوى المدنية في الانتخابات البرلمانية، ولكن لم نفقد الأمل في مستقبل أفضل لهذا البلد العريق.. تظاهرنا معا ضد انفراد الإخوان بالسلطة وضد التعديلات الدستورية التي فرضوها عنوة وضد تحالفهم مع أركان الدولة القديمة ووجوهها القبيحة. وضحكنا ضحكًا كالبكاء عندما انكشفت أمامنا ضحالة النخبة السياسية، وبكينا معا عندما انتشرت الأفاعي في الشوارع وارتفعت الأصوات القبيحة والوجوه العبوسة والهتافات الفاشية... وبعد رحيل الإخوان، أرهقتنا الأخبار اليومية عن العمليات الاٍرهابية وأدمت قلوبنا على شهدائنا من العسكريين والمدنيين. التزمنا الصمت حدادًا وحزنًا. لم أعد أراها إلا على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى كانت صدمتي الكبرى.

"صومًا مقبولًا وقتلًا شهيًّا" كان هذا عنوان حسابها على الموقع الأسبوع الماضي على خلفية استشهاد العديد من الأطفال المسيحيين كانوا في رحلة إلى دير الأنبا صامويل بالمنيا، في عملية من أقذر وأحط العمليات الإرهابية وأكثرها وضاعة... أرسلت إليها مستفسرًا فأبت أن تفسر كلامها، قائلة: "نحن نصوم ليتكلم الله". احذفي هذا الكلام فورًا، لم ترد... تابعت: لست أنت من يخلط بين داعش والأغلبية العظمى من المسلمين... فانفجرت قائلة: "ومن قام بذبح القس وسحل السيدة المسيحية بعد تجريدها من ملابسها في المنيا العام الماضي؟ ومن قام بتكفيرنا على شاشة التليفزيون؟ ومن هجر مئات الأسر المسيحية من بيوتها؟ ومن تظاهر ومارس العنف لكي لا تبنى كنيسة في محيط مسكنه؟ لم يكن هؤلاء من الدواعش. للأسف أنت تمثل فقط ١٠٪‏ من المسلمين على أكثر تقدير". صدمت مما قالت فصحت: إذن من هي الملايين التي احتشدت ضد نظام الإخوان في ٣٠ يونيو؟ كم عدد أصوات الإخوان مقارنة بالقوى المدنية في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية عام ٢٠١٢؟ لا ترددي كلام المتعصبين... لسنا متعصبين، ديني هو دين الحب، ديني لا يأمرني بقتل وحرق أحد.. "باركوا على الذين يضطهدونكم، باركوا ولا تلعنوا" هكذا يقول الكتاب المقدس.. قلت: ويقول القرآن أيضا "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم".. صاحت: لا تقل لي ماذا يقول الإسلام، ما الفائدة إذا لم يتوقف عنف المسلمين ضد المسيحيين؟... ولأول مرة وجدت نفسي أدافع عن ديني أمامها وأتحدث بلغة نحن وأنتم. الاٍرهاب ليس حكرًا على المسلمين، تاريخ جميع الأديان مليء بالعنف والدم والتعصب والكراهية التي يزرعها المتحدثون باسم الإله والمحتكرون للحقيقة. فأجابت: "أبدا لا تردد هذا الافتراء... المسيحية كانت وما زالت دين الشهداء، هل رأيت مسيحيا يذبح أو يحرق إنسانًا؟ أو يفجر نفسه في جمع من البشر؟". قلت: لا تخلو كتب التاريخ من قصص كثيرة عن مجازر قام بها مسيحيون دفاعا عن عقيدة معينة أو مصالح سياسية أو اقتصادية، نحن فقط في المرحلة الخطأ من التاريخ، ويبدو أننا مصرون على إعادة التاريخ كاملا بكل ما فيه من مآسٍ وقبح، ولكن حتمًا سيظهر مارتن لوثر كينج الإسلامي و... وقبل أن أنتهي من حديثي أغلقت منصة النقاش وتركتني في حزن شديد وحيرة من أمري.. لماذا أقف موقف الدفاع عن ديني بعد كل جريمة خسيسة لحفنة من المجرمين ومصاصي الدماء؟ كيف تظن هي بديني كل هذا الشر؟ هل ٩٠٪‏ من أبناء عقيدتي إرهابيون؟ كيف لها أن تعرف يقينًا أن حزنها على الشهداء أكبر من حزني؟ لم أتوقع يومًا ذلك النقاش الطائفي بيني وبينها أبدًا، فهل يجب عليَّ إعادة النظر في مقولة "مصر عصية على الحرب الأهلية"؟. ولا أجد إمامي إلا دعاء إبراهيم عليه السلام "رب اجعل هذا البلد آمنًا واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام".

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف