أكثر ما يدعو للدهشة فى الأزمة المثارة الآن حول هدم منازل بعض الشخصيات العامة والتى قيل إن الأراضى التى بنيت عليها تم اغتصابها من أملاك الدولة،هو هذا الصمت المطبق الذى نزل على الجهة المسئولة عن هذا القرار، فلا هى وجدت ما يدفعها الى الرد على الاتهامات التى وجهت اليها بتجاوز صلاحياتها والجور على أملاك مستوفية أوضاعها القانونية، ولا هى وجدت للرأى العام حقا عليها لأن يعرف حقيقة ما جري، ولا هى أدركت أن التطورات السياسية التى شهدتها البلاد منذ ثورة 25 ينايرأصبحت تستوجب قدرا عاليا من الشفافية فى الأداء الحكومى افتقدناها طوال العقود الماضية وكان غيابها سببا فى الانفجار الشعبى الذى أسقط النظام الحاكم آنذاك.
هذا فى رأيى أخطر بكثير من هدم مبان بدون وجه حق، أو استخدام الصلاحيات المخولة للجهة المسئولة عن ذلك للتشهير فى الصحف ووسائل الإعلام بمسئولين سابقين سقطت ملكية بعضهم لتلك المنشآت منذ سنين، وآلت ملكية البعض الآخر من هذه المنشآت لأصحابها بالميراث الشرعى وليس باغتصاب المال العام، وهو ما أوضحته الصحف للرأى العام عملا بمهمتها الطبيعية، بينما أحجمت الدولة عن أى توضيح.
ومن الغريب أن الشخصيات التى استهدفتها حملة هدم البيوت هذه والتشهير بأصحابها كانت من أكثر الشخصيات نزاهة فى نظام اتسم معظم أفراده بالتربح واستغلال النفوذ، وقد كان أول هؤلاء الفنان فاروق حسنى الذى جرت محاولات مستميتة خلال فترة الفوضى التى سادت البلاد فى عقب الثورة لجرجرته الى المحاكم وتلويث سمعته باتهامات باطلة باءت كلها بالفشل ولم يصدر بحقه حكم واحد بالإدانة، فى تلك الأثناء قام فاروق حسنى ببيع فيلته التى بناها على ارض اشتراها من الأهالى وليس من الدولة، بمنطقة منيل شيحة بالجيزة الى مستثمر يمنى صديق لمصر يتعدى حجم استثماراته هنا عشرات الملايين من الجنيهات، وهنا كانت الغلطة الأولى للجهة التى أخبرت الصحافة أنها هدمت بيت وزير سابق للتدليل على حرصها على تطبيق القانون على الجميع، لذلك فإذا كان هناك عقاب قد وقع فقد وقع على المستثمر العربى الذى اختار مصر مستقرا له وبدلا من أن يشترى لنفسه ولأسرته قصرا فى سويسرا مطلا على بحيرة ليمان أو على جبال الألب اختار بيت الفنان المصرى المطل على النيل. أما البيت الثانى الذى تم تسريب صور هدمه للصحافة فقد كان هذه المرة لرئيس الوزراء الذى تمت تبرئته فى جميع القضايا التى اتهم فيها، حيث نقلت الصحف فى صفحاتها الأولى أن البولدوزرات هدمت بيت الدكتور أحمد نظيف، وكذلك بيت ورثة على نظيف الواقع بجواره، والحقيقة أن رئيس الوزراء السابق لم يشتر من الدولة هذا البيت ولا غيره من البيوت وانما والده القبطان الراحل محمود نظيف كان قد اشترى تلك الأرض من ملاكها الفلاحين هو وشقيقه على نظيف وقام كل منهما ببناء بيت ريفى لنفسه على الأرض التى تخصه، وعند وفاة محمود نظيف انتقلت ملكية البيت الى أبنائه جميعا وليس الى أحمد نظيف وحده فلم يزد عليه طوبة واحدة، أما ورثة على نظيف فلا وجود لهم لأن على نظيف نفسه حى يرزق.
فهل يمكن أن تكون اللجنة المكلفة باسترداد أملاك الدولة قد تحركت وفق معلومات خاطئة الى هذا الحد؟ هل يمكن أن يعلنوا أنهم هدموا بيت فاروق حسني، بينما البيت مملوك لغيره بعقود رسمية مسجلة لا تعلم اللجنة عنها شيئا؟ وهل يصح أن تخبر اللجنة الصحافة أنها هدمت بيت الدكتور أحمد نظيف وبيت ورثة على نظيف بما يوحى بأنه اغتصب الأرض المقام عليها من الدولة مستغلا موقعه كرئيس للوزراء، بينما غاب عنها أن رئيس الوزراء لم يغتصب الأرض ولم يشتر البيت الذى آل اليه بالميراث الشرعي، كما غاب عنها أنه ليس هناك رسميا ورثة لعلى نظيف لأنه حى يرزق؟ ولست أريد أن أسترسل فى هذا المنطق فأقول إذا كانت تلك الأخطاء الفاحشة قد اكتشفت لأن أصحاب هذه الأراض شخصيات معروفة، فما حجم الأخطاء الأخرى التى يمكن أن تكون قد وقعت مع مواطنين آخرين لا يعلم بأسمائهم أحد؟ إننى أفضل الاعتقاد بأن ما حدث مع فاروق حسنى وأحمد نظيف هو خطأ استثنائى لم يتكرر من بقية من تعرضت اللجنة لأملاكهم، وذلك لأن القائم على هذه اللجنة المهندس إبراهيم محلب شخصية محترمة لا ترقى اليها الشبهات، لكن تبقى الأسئلة معلقة لأن اللجنة لم تتصرف وفق ما تتطلبه الشفافية السياسية ولا ما تنص عليه أصول الممارسة الديمقراطية، فتركت من يقول يقو ل دون أن تهتم بالرد عليه، وحتى هذه اللحظة فإن الرأى العام الذى تم تجاهله، لا يعرف ان كانت اللجنة قد وقعت فى الخطأ، وهو غير مقبول، فإذا كان الخطأ مقبولا من أى جهة أخرى فى الدولة لأن الإنسان عرضة دائما للصواب والخطأ، فإن الخطأ غير مقبول من هذه اللجنة بحكم سبب إنشائها، لأن اللجنة المنوط بها التصدى للاغتصاب غير القانونى للأملاك غير مقبول منها أن تقوم هى نفسها باغتصاب أراض ليست لها، وأما إذا كان هذا الخطأ قد ارتكب بسبب عدم صحة المعلومات التى وردت لها فإن المصيبة تكون أكبر.
نأتى الآن الى ذلك الخطأ الأكبر الذى ارتكبته اللجنة وترتكبه جميع أجهزة الدولة، وهو التجاهل التام للرأى العام وعدم الحرص على توضيح الحقيقة له، بل ترك الأمر للتفسيرات الصحفية، أو للشائعات، أو لمن ينتهزون غياب صوت الحكومة ليملأوا الساحة بالآراء التى تصنعها التنظيمات المعادية للنظام الذى اختاره الشعب بملء إرادته بعد أن أسقط حكم الإخوان في 30 يونيو.
إن تلك الرسائل التحريضية السوداء التى تنتشر الآن بشكل سرطانى عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وعن طريق عناصر خاصة تندس فى وسائل المواصلات لتروج ما يَصْب فى النهاية فى مصلحة جماعات سياسية مرفوضة، هى نتاج لهذا الصمت المطبق لحكومة لم تتعلم بعد كيف تتواصل إيجابيا مع الجماهير ولا تحرص على أن تشرح سياساتها للناس حتى تكسبهم الى جانبها، فها هى لجنة رسمية تابعة للدولة تتهم بالجريمة ذاتها التى أنشئت من أجل مكافحتها، ولا أحد يتكلم أو يشرح أو يوضح، إن حالة هدم البيوت هذه ما هى إلا مثال لسياسة ثابتة تستخف فيها الدولة بالرأى العام ولا تعيره الاهتمام المطلوب ولا تحترم حقه فى أن يعرف الحقيقة، وفى أن يثق فى صواب قرارات أجهزته الرسمية.