طه عبد العليم
خمسون عاما على عدوان يونيو
غداً تحل الذكرى الخمسون لعدوان 5 يونيو 1967، الذى شنته اسرائيل بتواطؤ ودعم أمريكى على مصر وسوريا والأردن، فاحتلت سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، جراء هزيمة يونيو التى دفعت- ولا تزال- ثمن تداعياتها المريرة أجيال متعاقبة. ويقينا فان اعادة قراءة التاريخ تصبح مجرد اجترار لماض يبدو منقطع الصلة بحاضر الأمة ومستقبلها بغير التعلم الايجابى من دروسه.
وأسجل، أولا، أنه لا ينبغى نسيان أن ما جرى كان عدوانا استعماريا مُبيتاً، وأن أمة مستهدفة ينبغى أن تكون متأهبة غاية التأهب لمواجهة مؤامرات أعدائها. وقد سجلت فى مقالى حرب يونيو: عدوان أم هزيمة؟ (جريدة الأهرام 3 يونيو 2007)، أنه لا تزال بغير إجابة كثير من الأسئلة عن حرب يونيو. وأعتقد أن جدوى إعادة طرحها تتوقف على ما إذا كان هاجس السؤال وهادى الجواب هو التعلم الايجابى من وقائع ما جرى من منظور المستقبل. ويعنى هذا أن تجاوز البقاء أسرى المواقف المتحيزة تجاه جمال عبد الناصر, المنتصر ثم المهزوم. وقد انقسمت النخبة المصرية ولا تزال بين من لا يرون فى حرب يونيو سوى العدوان, ومن لا يتذكرون منها سوى الهزيمة! رغم بساطة الحقيقة الموضوعية التى تبين بجلاء أنها عدوان وهزيمة فى آن واحد! ورغم أن عبد الناصر قدم الذريعة للعدوان، واستُدرِج للحرب بقراراته غير المحسوبة، فحشد القوات المصرية فى سيناء بغير إعدادها واستعداد قيادتها للحرب، فان التحليل الموضوعى النقدى للسياق الذى قاد للحرب لا يقود الى إنكار حجج أنصار نظريات المؤامرة والاستهداف.
وثانيا، أن هدف الحرب كان وأد انجازات ثورة يوليو تحت قيادة عبد الناصر, التى أنهت احتلالا بريطانيا طال سبعين عاما, واستردت حقا مسلوبا وسيادة مهدرة بتأميم قناة السويس, ولم ترضخ لإحجام أمريكا عن تسليح الجيش المصرى فكسرت احتكار الغرب للسلاح, وبنت السد العالى أعظم مشروعات البنية الأساسية الانتاجية فى القرن العشرين تسريعاً للتنمية الزراعية والصناعية بحماية الأمن المائى وبناء قاعدة الطاقة، وحمايةً للوادى والدلتا من أهواء الفيضان، وارتقاء بالتصنيع حتى غدت مصر بين اكثر خمسة بلدان نامية تصنيعا عشية وفاة عبد الناصر, وأقامت النظام الجمهورى وأسقطت حكم الأسرة العلوية الفاسدة, وصفَّت الإقطاع وحررت الفلاح المصرى وثروة الأمة من قبضته, وانحازت الى فقراء مصر فعززت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنة وفى مقدمتها تعزيز تكافؤ الفرص بمجانية التعليم، وأعلت الشعور بالكرامة الوطنية المصرية مع تعميق الوعى بعروبة مصر، ونهضت بدور حاسم فى تحرر البلدان العربية والإفريقية وغيرها من الاستعمار، وقادت تأسيس حركة عدم الانحياز بما حرم الولايات المتحدة والمعسكر الرأسمالى من التحالف مع الدول المستقلة حديثا فى صراعه مع الاتحاد السوفيتى والمعسكر الاشتراكي، وعززت روابط مصر الافريقية بتأسيس منظمة الوحدة الافريقية... الخ.
وثالثا، أنه اذا كانت انجازات قيادة عبد الناصر تفسر العدوان, فان إخفاقاتها تفسر الهزيمة، وبين الاخفاقات دون ريب تأميم الحياة السياسية بمصادرة الحريات العامة، واعتبار الولاء للنظام والشلل ومراكز القوة معيارا لتولى مواقع القيادة الدولة على حساب الوطنية والجدارة، وانفلات زمام القيادة العسكرية على حساب القيادة السياسية، وإرسال نخبة القوات المقاتلة الى اليمن على حساب متطلبات الدفاع عن مصر ضد عدو متربص، وتمكين قيادات عسكرية كشفت الهزيمة تدنى كفاءتها وعدم استعدادها القتالي؛ والاندفاع فى تصعيد الحرب الباردة العربية العربية رغم دعوة الوحدة العربية، وتحميل مصر ما لا طاقة لها به فى قيادة حركة النضال ضد الاستعمار على امتداد العالم بأسره، والرهان الخاسر على دعم الاتحاد السوفيتى المطلق بما يتجاوز قيود صراعه مع الامبريالية وحدود موقفه من اسرائيل.. الخ. وواقع الحال أنه ليس للهزيمة أبٌ وللنصر ألفُ أبٍ وأب! فكان منطقيا أن حرم ناصر من شرف دوره فى تحدى وتجاوز الهزيمة ونسب كامل النصر للسادات! رغم أن الأول وليس الثانى هو الذى قاد الأمة وأعاد بناء القوات المسلحة فى سنوات الهزيمة الحالك، وقاد حرب الاستنزاف المجيدة. ولنتذكر أنه لم يكن ليتصور أن تقوم لمصر قائمة بعد عدوان 1967؛ فاذا بالمصريين يرفضون الهزيمة، وينتصرون بقواتهم المسلحة، فيحررون سيناء بعبورهم العظيم قبل أى شيء. وكما أوجزت فى مقالى إعادة زيارة تاريخ مصر والمصريين (جريدة الأهرام 16 ديسمبر 2007) فان على من لا يثق فى قدرات مصر الكامنة، فيزعم أنها مشلولة عاجزة عن خوض ماراثون التقدم! أقول إن إعادة زيارة تاريخ مصر لا تكشف فقط أسباب صعودها وأفولها! وإنما تبين أن مكانتها رهن بأن يثبت المصريون جدارتهم بها! بألا يقبلوا بأقل من الريادة العالمية.
ورابعا، أن مصر تحت قيادة السيسى قد أعادت صنع التاريخ مجددا باسقاط حكم جماعة الإخوان وحلفائها من تنظيمات الفاشية التكفيرية والارهابية، فقاد انقاذ مصر من السقوط دولةً ووطناً وأمةً وهويةً. وإذا كان مشروع تصنيع مصر فى مقدمة أهداف عدوان يونيو 1967، فان إعادة تصنيع مصر ينبغى أن تكون فى مقدمة برنامج الرئيس السيسى عشية وغداة ولايته الثانية، لأنه رافعة التنمية الاقتصادية وتصفية الفقر ومواجهة اختلالات الاقتصاد المصري. وبهذا قبل غيره تبنى مصر تحت قيادة السيسى على انجازات مشروعات كبرى تم بناؤها فى خضم الحرب المريرة والممتدة ضد الارهاب وضد حصار اقتصادى ضار يستهدف تركيع مصر بعد أن استعصى تفكيكها واسقاطها. فمشروعات الطاقة والطرق والكبارى والموانيء والاسكان وغيرها من مكونات البنية الأساسية الانتاجية والاجتماعية الضرورية لانطلاق التصنيع. ويتطلب انطلاق التصنيع- قبل أى شيء- الارتقاء بجودة التعليم؛ مع حماية مبدأ تكافؤ الفرص بأن يكون التعليم مجانيا فى كل مراحله مع الالتزام بمعيارى الكفاءة والعدالة، كما يؤكد تقرير مهم لليونسكو، والارتقاء بالتدريب والبحث العلمى والتكنولوجى والابتكار، كما يبين التقرير الأحدث لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، الذى يستحق تناولا لاحقا باذن الله.