الأهرام
محمد صابرين
«القدر والسلطة».. وتحولات المشهد فى الشرق الأوسط
ليس مهما ما يريده الرئيس، بل المهم ما تسمح به الظروف المحيطة بالرئيس.. أى رئيس، بل حتى لو كان رئيس الولايات المتحدة وأحسب أن «الواقعية» تفرض نفسها فى نهاية المطاف حتى ولو كانت المنطقة هى الشرق الأوسط، وهى المنطقة المسئولة عن أكثر أزمات العالم وجراحه المفتوحة! فها هو جيمس بيكر وزير خارجية أمريكا الشهير ـ أيام جورج بوش الأب،، يقدم خلاصة واقعية لتحولات المشهد فى المنطقة فالرجل يقول بوضوح إن المنطقة تحتاج إلى اتفاق بين اللاعبين الاقليميين «على ما بعد داعش» والمثير للدهشة أن بيكر يقول ما سبق أن قاله أوباما، وذلك المتعلق بضرورة تعلم تقاسم الأمور فى المنطقة مع ايران إلا أن بيكر يسوغ الأمور بواقعية، فهو يقول فى حوار لمجلة «المجلة السعودية» إن تغير الإدارة أدى إلى تغير الأمور بالفعل.. وهناك اعتراف واضح فى هذه الإدارة بأن إ يران تلعب دورا مثيرا للمشكلات فى الشرق الأوسط، ومن المهم أن أمر يكا وحلفاءها التاريخيين، العرب المعتدلين وإسرآئيل، سينضمون معا لمواجهة هذا النوع من التصرفات السياسية من جهة إيران، وبعد هذه المقدمة يصل بيكر إلى «خلاصة الموضوع» بتأكيده ومع ذلك فى رأيى، لن تتم أى تسوية أو سلام دائم فى سوريا والعراق من دون إيران.. وأنا أتحدث عن تلك الميلشيات!وأحسب أن هذه أول التحولات أو «الوضع الطبيعى الجديد» ألا وهو التفاوض والحوار وعقد «صفقات» أو سيظل السلام «حلما مراوغا» وهنا فإن الأرجح من وجهة النظر الواقعية، والتى تستمد قوتها من «ذهنية المنطقة» أن الصراع والحروب بالوكالة سوف تمتد نظرا لأن «العقلية القبلية والثارات التاريخية و«المناوشات الطائفية» و «المصالح والتدخلات الخارجية» سوف تفعل أقصى ما تستطيع لاستمرار الحرائق بالمنطقة.

وأغلب الظن أن المشهد الحالى فى المنطقة تشتد أزمته من حقيقة أخرى تتعلق بمسألة «القدر والسلطة» فالكثير من الأنظمة وأبرز اللاعبين يعتقدون أو يؤسسون شرعيتهم على ذلك التزاوج ما بين «الدين والسلطة» أو رفع رايات الدفاع عن الدين بل إن إسرائيل ذاتها تحارب تحت رايات «الدولة اليهودية» الخالصة، ومن وراء البحار فأن أكثر المتحمسين لإ سرائيل الآن هم «اليمين المسيحى المحافظ» الذى يرى فى إسرائيل «نبوءة دينية» ولا يرى الصراع من زاوية احتلال أرض شعب آخر، وبالتالى فإن الحل والصفقة التاريخية تصطدم «بالحقيقة المطلقة»وهذه الحالة من «اليقين الكامل» الذى لا يسمح بأى جدل أو شكوك وفى المقابل فإن الولى الفقيه يمارس أموره من أجل التمهيد لعودة المهدى المنتظر، كما أن «الاردوغانية الجديدة» تبشر بالعثمانية الجديدة،، وليس بعيدا عن كل هؤلاء «الجماعة» التى أزاحها المصريون إلا أنها فى المقابل ليس لديها سوى «يا أحكمكم أو يا أقتلكم». وبالطبع المشهد لا يكتمل إلا «بحفنة ميليشيات وتنظيمات إرهابية» تنمو وتتكاثر سرطانيا، وهذه المنظمات الإرهابية للأسف سوف تظل أحد ملامح المشهد فى الشرق الأوسط.. وذلك نظرا لأن من يحرك الدمى الشريرة لازال يرى أنها مفيدة، وأن الخسائر الجانبية من عملية هنا فى مانشستر أو عملية هناك ـ هو جزء من «الثمن» الذى يجب دفعه لعملية إدارة وإمساك خيوط الإرهاب، وأجندته، وعملية مكافحة الإرهاب فى ذات الوقت. المهم هو «نشر بؤر إرهابية» هنا وهناك، والتعهد برعاية هذه «الشجرة الملعونة» حتى تستمر فى تهديد الاستقرار، وابتزاز الأنظمة، وتقويض البناء والنمو فى مجتمعات ودول تمكنت من البناء على قدر يسير، ولكنها فوجئت بدوامة جهنمية تأكل الأخضر واليابس، وتحتاج إلى عقود طويلة من السنين للعودة إلى ما كانت عليه قبل أن تحل عليها لعنة «الفوضى الخلاقة».

ونعود إلى «الملمح الثالث»لعملية التحول فى المشهد بمنطقة الشرق الأوسط، وهو المتعلق بمدى استعداد الولايات المتحدة لخوض «حروب الآخرين»، وأحسب أن «المزاج العام» الأمريكى قد سئم من حروب الآخرين، كما أن تكلفة الحروب باهظة للغاية ولم تعد قطاعات نافذة فى النخبة الأمريكية ترغب فى خوض الحروب.. وإن كان ذلك لا يعنى التوقف عن التكسب منها، أو إثارتها! فها هو جيمس بيكر يقول «عندما أقول إننا نحتاج إلى مواجهة إيران بطريقة أفضل عن ذى قبل، لا أعنى أن تسمح الولايات المتحدة بالدخول فى نزاعات عسكرية مفتوحة، ففى النهاية لن يكون ذلك مقبولا شعبيا، وبالتالى لن يمكن تحمله فى الداخل هنا.. وسنخسر السياسة، ويوضح بيكر ما بات يعرف بالعقيدة الأمريكية بقوله «بمجرد أن تصل الجثامين سنخاطر بالخسارة السياسية، كما فعلنا فى فيتنام، وكما فعلنا فى العراق بعد التدخل عام 2003 وهذه حقيقة لم يتنبه إليها الكثيرون حتى فى ذروة الحماسة أثناء زيارة ترامب للسعودية، فالرجل قالها بوضوح فى خطابه أمام القمة العربية الإسلامية حيث أكد أن الولايات المتحدة لن تخوض الحرب نيابة عن الدول الإسلامية. وأحسب أن ذلك بات أمرا مستقرا حتى الآن!

ولعل الملمح الرابع للتحولات الإقليمية والدولية، هو تفسير بيكر للسياسة الخارجية الأمريكية فى زمن «أمريكا أولا» فهو يقول عن ريكس تيكرسون وزير الخارجية الجديد ـ الذى هو صديقه ـ «أدعم بشدة توجهه العام فى السياسة الخارجية الذى يؤكد على المصلحة الوطنية، إنها الواقعية، وهى تعود إلى ما قلت سابقا، عندما تبدأ صناديق الجثامين فى الوصول إلى الديار. فسيكون عليك أن تخاطر بمصلحة وطنية كبيرة أو تخسر سياستك.

ويبقى أن هذه هى الملامح الجديدة للواقع فى الشرق الأوسط بعيدا عن «الصخب والاحتفالات» والأمانى. فأقصى ما يمكن للولايات المتحدة أن تقدمه هو «الدعم اللوجيستى والاستخباراتى»، وهذا بالمناسبة سيكون خدمة مدفوعة الأجر مقدما وإذا كانت الولايات المتحدة القوة العظمى الأولى فى العالم تشتكى من فقدان الوظائف، وصعوبة الوضع الاقتصادى، والأخطر أنها باتت تعانى من «عقدة فيتنام والعراق» ولا ترغب فى مواجهات مفتوحة مع إيران، وتتحسب من عودة صناديق الجثامين إلى الديار.. إذا كان ذلك أمرا واقعا والمشهد الطبيعى الجديد فى الشرق الأوسط فإن على الآخرين أن يراجعوا أنفسهم وأحسب أن «الجحيم الجديد» سيكون فى ليبيا، والمنطقة المحيطة بها وعلى العاقل ألا يتم «استدراجه» أو اصطياده فى رمال الصحراء المتحركة فالسيناريو جرى تطبيقه مرات عدة فى المنطقة، وعلى مراحل مختلفة.. وللأسف فإن الحماقة والغرور، فضلا عن «ضعف الدائرة المحيطة» بصانع القرار قادت إلى نكسات وهزائم مريرة مازلنا نسدد «فواتيرها» حتى الآن والأرجح أن قدرا من الحذر ر بما سوف يو فر لسفينة الأوطان بالمنطقة أن تنجو من بوابات الجحيم!، والمسألة هنا لا تتعلق بالقدر أو بالسلطة بل «بمصائر شعوب» تكابد جحيم الحياة اليومية، ولا تتحمل جحيما آخر لا أحد يعرف نهايته؟1
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف