الجمهورية
د. محمد مختار جمعة
توكل لا تواكل
قد يكون التنظير للمصطلحات العلمية والفكرية والدعوية والإيمانية سهلاً عند بعض العلماء والمثقفين. وقد يتجرأ علي ذلك أنصاف وأشباه المثقفين وفق محصولهم الثقافي والمعرفي. لكن القضية الحقيقية تكمن في مستوي الوعي بالمصطلح ومستوي تطبيقه.
فالتوكل علي الله عز وجل يقع في منطقة وسط بين الشطط في الأسباب والتعلق المطلق بها والتواكل القائم علي إهمال الأسباب أو تعطيلها أو تهميشها. فهو قائم علي الأخذ بالأسباب بقوة وجدية. وهمة وعزيمة. وتفويض أمر النتائج لله - عز وجل -. ففي قول الحق سبحانه وتعالي: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة". يقول أهل العلم: إن "ما" هنا غائية. أي أعدوا لهم أقصي ما تملكون وما تستطيعون من أسباب القوة. فأذا أخذتم بهذه الأسباب في أقصي درجاتها ما عليكم بعد ذلك إلا أن تفوضوا أمر النتائج إلي الله عز وجل.
ونري أن الناس في هذه القضية ثلاثة أقسام:
فريق عطل الأسباب. ولم يحسن التوكل. وإنما تواكل وتكاسل. فهؤلاء نقول لهم ما قاله سيدنا عمر بن الخطاب "رضي الله عنه": "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني. وقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة". كما نذكرهم بحديث رسول الله "صلي الله عليه وسلم": "لو توكلتم علي الله عز وجل حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً" أي تذهب شديدة الجوع وتعود ممتلئة البطون. فهي تعمل وتتحرك وتأخذ بالأسباب. تغدو وتروح. ولا تجمد في مكانها وأعشاشها وتقول: اللهم ارزقني أو أمطر علي حبك ورزقك.
ومما يدعم قضية الأخذ بالأسباب. قوله تعالي: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور". وقول النبي "صلي الله عليه وسلم": "خيركم من يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود - عليه السلام - كان يأكل من عمل يده" وقوله "صلي الله عليه وسلم": "من بات كالاً من عمل يده بات مغفوراً له".
وفي قوله تعالي لمريم - عليها السلام - وهي نفساء: "وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً" إشارة واضحة إلي أهمية الأخذ بالأسباب. وإلا فما عسي أن تفعل نفساء ضعيفة في جذع نخلة راسخة قوية. لقد كان من الممكن عقلاً وواقعاً أن يؤتي لها بالتمر علي طبق من ذهب دون عناء أو تعب. ولكن كما قال الشاعر:
ألم تر أن الله قال لمريم
وهزي إليك الجذع تساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزة
جنته ولكن كل شيء له سبب
أما الفريق الثاني فقد أسرف في اعتماده علي الأسباب. ظاناً أو متوهماً أن الأسباب تؤدي بطبيعتها إلي النتائج. غير مدرك أن للكون خالقاً قادراً حكيماً يقول للشيء كن فيكون. يجري أسبابه حيث يريد. ويوقف جريانها حيث يريد. "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" غير أنه سبحانه وتعالي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
وأما الفريق الثالث فهو من شرح الله صدره للإسلام علماً وفقهاً وفهماً وتطبيقاً. فأخذ بالأسباب بقوة. مفوضاً أمره في النتائج إلي الله عز وجل. راضياً بها. مدركاً أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. وما أصابه لم يكن ليخطئه.
وكان سيدنا عراك بن مالك يأتي إلي المسجد يوم الجمعة مبكراً للصلاة. فإذا قضيت الصلاة انصرف ووقف علي باب المسجد قائلاً: "اللهم إني قد أجبت دعوتك. وأديت فريضتك. وانطلقت كما أمرتني فارزقني من فضلك الكريم" استجابة عملية وتطبيقية لقوله تعالي: "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي إلي الصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون".
إننا نريد شعباً متوكلاً آخذاً بالأسباب لا متواكلاً مهملاً لها. نريد فهماً لحقيقة التوكل. نريد مزيداً من العمل والإنتاج. نريد أن نسابق الزمن لنستدرك ما فات. وندرك من سبق. ونسابق من ينافس. ونحقق الكفاية والرخاء لأنفسنا ولأوطاننا في الدنيا. ومرضاة ربنا عز وجل في الدنيا والآخرة. بالامتثال لأمره وشرعته. مؤكدين أن من رحمة الله عز وجل بنا أنه يحاسبنا علي الأخذ بالأسباب لا علي تحقيق النتائج. فإن وصلنا إلي ما نريد وما نعمل له فذلك فضل الله وتوفيقه. وإن كانت الأخري لقينا الله عز وجل ومعنا العذر.
كما ينبغي أن نبني حركة حياتنا الآخذة بالأسباب في إطار الرؤية العقدية والإيمانية الصحيحة التي لا تنفك ولا تنفصل عن حقيقة التوكل الصحيح الذي عمل القرآن الكريم علي ترسيخه في النفوس ترسيخاً يحميها من كثير من الأمراض العصرية كالتوتر والقلق والاكتئاب والسعي في أسباب غير مشروعة. لأن ما قدر كان. وليس للإنسان في النهاية إلا ما كتب له. والله عز وجل إذا أراد أمراً هيأ له أسبابه ويسره علي صاحبه. يقول سبحانه: "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ہ ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل علي الله فهو حسبه". ويقول سبحانه: "ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا". ويقول سبحانه: "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم". ويقول سبحانه: "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم". فمفاتيح خزائن الدنيا وما فيها عنده وحده دون سواه. فلنحسن التوجه إليه والاعتماد عليه. إنه نعم المولي ونعم النصير.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف