ناجح ابراهيم
على بن أبى طالب.. عندما يرتجف القلم (1)
الكتابة عن حواريى الرسل وأصحابهم لا تقل مهابة عن الكتابة عن الرسل عليهم السلام، فكما اختار الله رسله واصطفاهم وصنعهم على عينه، كذلك اختار لهم حوارييهم وأصحابهم.
واليوم أريد أن أبدأ سلسلة مقالات عن على بن أبى طالب، الشهيد أبوالشهداء، والعالِم الذى بَزَّ العلماء، والزاهد الذى عاش على الكفاف والقليل حتى إنه باع سيفه من أجل قوته، والعابد الذى ترقّى فى مدارج العبادة منذ نعومة أظافره فى بيت الرسول، عليه الصلاة والسلام، والفارس الشجاع الذى نازل وهزم أعظم الفرسان فى «بدر والخندق» وغيرهما من مواطن الجهاد الحق، الذى لا يعرف البغى ولا الظلم.
وهو الصحابى الذى لم تكن له جاهلية.
وهو الشاعر والأديب والعالم الذى سبق بعلمه الكثير من الصحابة والتابعين، ولولا أن بُخس حقه لكان أعظم الخلفاء وأنبه الحكماء والفقهاء، وكانت مدرسته الفقهية هى التى تسود بلاد المسلمين، «فقد أُوتى من ذكاء الباحثين وعبقرية العلماء وحكمة الحكماء أكثر من دهاء الساسة المتغلبين»، كما يقول العقاد. الكتابة عن على بن أبى طالب لها هيبة شديدة فى نفسى أشبه ما تكون بهيبته فى فؤادى ومحبّته فى قلبى ومكانته فى نفسى.
فحياة الإمام على بن أبى طالب غاية فى الثراء، إن تحدثت عن أصوله وجدت أعظم الأصول وأطيبها، فأسرته هى أسرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وجده هو جد الرسول، «عبدالمطلب»، ذلك الأسد الشامخ الحكيم سيد قريش كلها، وهو الذى خُوطب مرات فى الرؤيا بحفر بئر زمزم، فحفرها، وهو الذى بهر «أبرهة» وتنبّأ بحماية الله للكعبة، أما والده فهو الذى ربى الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكفله ودافع عنه دفاعاً مجيداً لم يقم به أحد، وتحدى قريشاً كلها.
كانت الأقدار رحيمة بعلى بن أبى طالب، فلما كبر الرسول، صلى الله عليه وسلم، واشتد عوده وانفصل عن بيت عمه ثقلت المؤونة وافتقر «أبوطالب»، وتم توزيع أولاده على بيوت «العباس وحمزة» وبيت الرسول، فكان من قدر الطفل على بن أبى طالب أن يعيش مع النبى، صلى الله عليه وسلم، ليشهد بواكير نزول الوحى ومقدماته، ويعيش مع آيات القرآن التى تتنزّل لحظة بلحظة.
ألم أقل لكم إنها حياة ثرية، فهو الصحابى الوحيد الذى واتته كل الظروف السعيدة، فضلاً عن المصاعب الجمّة.
وهو الوحيد الذى غالى البعض فى حبه فهلكوا، وفرط البعض فى حقه فهلكوا، وقد تنبّأ بذلك، وكأن التاريخ والمستقبل مسطور أمامه «ليحبنى أقوام حتى يدخلوا النار فى حبى، ويبغضنى أقوام حتى يدخلوا النار فى بغضى»، وهو القائل أيضاً: «يهلك فىّ رجلان محب مفرط بما ليس فىّ ومبغض يحمله شنآنى على أن يبهتنى»، وصدق الإمام العظيم، فقد وقع بعض الشيعة فى تعظيمه بما لا يجوز، وذهب الخوارج إلى تكفيره ظلماً وبغياً، فهلك هؤلاء وهؤلاء، لأنهم لم يُنصفوا هذا الإمام العظيم.
الإمام علىٌّ ظُلم فى حياته، وحيل بينه وبين أن يقيم دولة العدل والحق، التى كان أهلاً لها وقادراً عليها، فلم تقم له دولة فى حياته، فقامت على اسمه بعد ذلك عشرات الدول بعد موته.
حاول البعض أن يُخفى فضله وخيره فإذا باسمه هو الأشهر بين المسلمين بعد اسم «محمد»، وهذا الاسم الجميل «على» هو الأشهر بين السنة والشيعة على السواء، فالإمام محبوب من الجميع، فلم أجد بيتاً من بيوت السنة، إلا وفيه طفل أو شاب أو كبير يحمل هذا الاسم الشريف الذى يحمل من معانى العزة والرفعة والعلو الكثير.
الإمام على لم يغب عن مشهد واحد من مشاهد النبوة منذ كان طفلاً صغيراً، وهو فى قلب النبوة كما هو فى بيتها طفلاً، ثم زوجاً لـ«فاطمة» خير نساء الأرض بعد مريم ابنة عمران، لم يبتعد يوماً عن النبى، ناصراً ومؤيداً.
وهل يستطيع أحد أن يفعل ما فعله الغلام «علىّ» وهو يبيت مكان الرسول يوم الهجرة، وما أدراك ما هول هذا اليوم، أو يصد الفرسان العظام عن رسول الله فى المعارك، أو يعايش وحى السماء بقلبه وروحه، حياته لا صبوة فيها ولا شهوة، كلها تبعات جسام وكفاح متواصل، وزهد لا ينقطع، وعلم ممتد لكل الأجيال.
أما النُّبل والفروسية فحدّث عنه ولا حرج، فقد حال جند «معاوية» بينه وبين الماء، فلما حمل عليهم وأجلاهم عنه، سوّغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده، فقد كانت نفسه الكريمة تأبى عليه أن يمنع خصمه من الماء.
الإمام «علىّ» بدايته رائعة ونهايته شهادة عظيمة من طائفة ظالمة جائرة، عدل مع الخوارج فلم يعدلوا معه، كان يمنع أصحابه من قتل جرحاهم، فإذا بهم يقتلونه وهو يصلى. ولد سيدنا «علىّ» فى الكعبة المشرّفة، ومات فى المسجد، بدأ بالمسجد وانتهى به، عاش فى كنف النبوة واستُشهد وهو يتلو القرآن.
سلام عليك يا سيدى فى الصالحين وفى الملأ الأعلى إلى يوم الدين.