أفهم أن يدمر الفقر معطيات حياة إنسان، فتضيق معيشته، ويصبح غير قادر على الإنفاق على متطلبات حياته من مأكل أو مسكن أو علاج، لكننى لا أفهم -بحال من الأحوال- أن يكسر الفقر أو العَوز الاقتصادى إيمان الفرد بوجود خالق رزاق ذى قوة متين، فيندفع بصورة غير محسوبة العواقب إلى بيع قطعة من لحمه من أجل الحصول على مبلغ من المال يحل به بعض مشكلاته الاقتصادية حتى حين، فضلاً عن أنه غفل عن حقيقة أن فى السماء «رحمن رحيم». إن وصول الإنسان إلى هذه المحطة يعنى ببساطة أنه أصبح يحتقر إنسانيته، وتلك والله أزمة كبرى.
يقف أحدهم وقد وضع على صدره لافتة كتب عليها: «مستعد لبيع كُليتى»، أو يصحب أولاده ويقف بهم فى الشارع، وينادى على المارّة: «لحم للبيع»، من أجل الحصول على حفنة من المال لن تحل له مشكلاته بحال من الأحوال، بل ستقدم له حلاً مؤقتاً، يدخل من بعده إلى ما هو أسوأ، فيفقد المال ويفقد قيمته كإنسان، والمسألة هنا لا تتوقف عند الوجع المادى الذى سيسببه له بيع قطعة من لحمه، الأخطر والأهم «الوجع النفسى».
مَثُل مَن يفعل ذلك كمَثَل المريض الذى لا يبحث عن علاج قاطعٍ لمرضه، ويكتفى بالمسكنات، وتكون النتيجة المزيد من الأمراض بسبب ما تفسده المسكنات فى خريطة جسده، حيث ترفع الألم عن عضو، وتبلى عضواً آخر بالعطب.
أكثر القرارات سذاجةً فى حياة البشر هى «قرارات البيع»، لأنها تعنى أن صاحبها اعترف بعجزه عن مواجهة مشكلاته وإيجاد حلول كريمة لها، فنأى بنفسه عن المصارحة والاعتراف لنفسه ولمن يعول بأنهم يعيشون ظروفاً اقتصادية متعثرة، تقتضى منهم بذل المزيد من الجهد حتى يتمكنوا من مواصلة الحياة.
استسهال البيع يعنى العزوف عن بذل الجهد، والميل إلى الحلول اليسيرة، أو هكذا يظن صاحب هذا التفكير، لأن البيع ليس حلاً كما ذكرت، بل يعنى قراراً يتخذه إنسان بأن يضع نفسه على عتبة التدمير الذاتى، فماذا يتبقى بعد أن يبيع الإنسان قطعة من لحمه سوى أن يتفكك من داخله؟ والمشكلة أن التفاته إلى الخطأ الذى وقع فيه بعد لحظة البيع لن يغيّر من الواقع المتردّى شيئاً، فالعازف عن المواجهة وهو مكتمل الخريطة الجسدية، سيكون أضعف عن البدء فى مشوار حل المشكلات بعد أن نقص منه عضو.
التحمّل فى هذه الحالة واجب، رَبُّ الأسرة الذى يشعر بالمشكلة عليه أن يصرف عن تفكيره مسألة البيع، مطلوب منه أن يواجه أفراد أسرته بالأزمة، ويستحثهم على تحمّل تبعاتها، ويخيّرهم بين بيع اللحم أو قطعة من الجسد، وتحمّل الظروف المعيشية الصعبة التى يمرون بها. وتقديرى أن أحداً لا يتنازل بسهولة، وأن التحمّل سيكون الخيار الأكثر وجاهةً لدى الجميع. التحمّل وبذل المزيد من الجهد هما الخيار الذى يمنح أملاً فى المستقبل، أما الخيار البديل فيضع صاحبه على عتبة المجهول!