بوابة الشروق
جمال قطب
من ضمانات العدالة أ- هيئة لا فرد
ـ1ــ
قد يتصور البعض أن ما ورد فى كتب الفقه من إسناد القضاء إلى قاضٍ فردٍ هو شكل دينى مفروض أو سنة نبوية متبعة، وهذا التصور بعيد عن الحقيقة كما أن ما ورد فى الأخبار النبوية من إرسال النبى صلى الله عليه وسلم رجلًا من أصحابه لتحمل مهمة القضاء يفيد «انفراد القاضى» كما أرسل معاذ بن جبل وعلى بن أبى طالب إلى اليمن وأرسل غيرهما إلى أماكن أخرى. إذ المفهوم من ذلك التكليف الفردى هو قلة العدد المتاح والمؤهل لتحمل أعباء القضاء. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشترط فى القضاة شروطًا لا تتوافر فى الكثير، وإذا توافرت فى بعض الناس من أقاربه فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينأى عن تعيين أقاربه وأصهاره حتى لا يتوهم البعض أن الرياسة تدر على صاحبها صلى الله عليه وسلم منافع وامتيازات. ولو وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لديه عددًا كافيًا لأسند القضاء فى كل منطقة لأكثر من واحد، فقد ثبت قوله صلى الله عليه وسلم لعلى ومعاذ رضى الله عنهما: «تطاوعا ولا تختلفا».
ــ2ــ
وإذا رجعنا إلى مصدر الشريعة وهو القرآن الكريم وسألناه عن إسناد القضاء إلى هيئة (أكثر من واحد) لوجدنا أن الشرع يقيم الشورى قيمة عليا من الإسلام، وأهم وظائف الشورى هى تحقيق التوافق بين المتشاورين مما يعنى وصول الهيئة إلى قرار توافقى صادر عن توافق عقلين لكل منهما طريقته فى استنباط الحكم مما يضمن للمتقاضى تقليب الأمر بين أكثر من عقل وطرح أكثر من تصور مما يساعد هيئة المحكمة على الوصول إلى عدالة راجحة. وإذا كانت العدالة ترجح باشتراك قاضيين فما رأيك لو قام النظام القضائى على أن تكون هيئة المحكمة من ثلاثة قضاة؟ أليس ذلك أضمن لترجيح أحد الاتجاهات؛ حيث لا يصدر الحكم إلا باتفاق الثلاثة أو باتفاق اثنين منهما، فذلك يعتبر ترجيحًا بل ترشيحًا للحكم الصادر عن الهيئة.
ــ3ــ
كما أن تعدد الهيئة (هيئة المحكمة) يحل مشكلة أخرى من مشكلات القضاء: فكثيرًا ما ناقش الفقهاء مسألة صلاحية المرأة لولاية القضاء، وكان النقاش دائمًا ينتهى إلى منع المرأة من ولاية القضاء.. وكان المنع يستند إلى سند سلبى إذ يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعين المرأة قاضية!!! وكان ذلك استدلالًا عجيبًا، وأضاف بعض المانعين سببًا آخر لمنع المرأة من ولاية القضاء، إذ قالوا: إن القرآن الكريم لم يعتبر شهادة المرأة الواحدة شهادة كاملة حيث يقول تعالى: ((..فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى..))، وفات المانعون أن المقام مختلف، وأن القياس لا يستقيم. فالقرآن الكريم حينما أمر بقوله ((فرجل وامرأتان)) فكانت الآية تنص على شرط مخصوص بالشهادة الشفوية فى الديون كما فهمنا من قوله تعالى: ((أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى))، لكن مقام القضاء مقام مواجهة بين خصمين وكلاهما معه حجة أو بينة، ولا يحتاج القاضى لأكثر من علم الشريعة بالإضافة إلى مهارات القضاء. وهذا متاح لبعض الرجال كما هو متاح لبعض النساء. وفوق هذا الذى ذكرناه فإن المانعين اعترضوا على تولية المرأة للقضاء لأن المنصب كان يتولاه فرد، أما إذا اتسعت هيئة المحكمة لأكثر من قاضٍ (ثلاثة قضاة) فماذا يمنع أن يكون أحد أفراد الهيئة امرأة؟!
ــ4ــ
لذلك فإن انتقال هيئة المحكمة من القاضى الفرد إلى هيئة مجتمعة لا يصدر حكمها إلا بالإجماع والأغلبية، يعتبر ضمانة للعدالة إذ يطمئن المحكوم عليه أن قضيته قد عرضت على ثلاثة عقول وتشاوروا فيها.. أليس ذلك أرجح وأصلح؟ فمرحبًا بهذا التجديد الذى أضاف الشورى إلى العدل حتى يصدر الحكم أكثر توفيقًا وسدادًا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف