فى حياة كل الأمم لحظات حرجة يتوقف على التعامل معها بحكمة مستقبلها، وعما إذا كانت سوف تسير فى طريق التقدم والرفعة أو أنها سوف تواجه أزمات مستعصية؛ وبالتعبيرات المصرية الشائعة فإن الأمة تصل إلى مفترق طرق بين سكة السلامة، وسكة الندامة، وسكة الذى يذهب ولا يعود. المطمئن فى هذه الحالة أن مصر فى تاريخها الطويل مرت كثيرا بهذه اللحظات، ومع ذلك فإن الدولة كانت قادرة دوما على تجاوزها، والسير قدما مع استئناف مسيرة السعى إلى التقدم الذى للأسف ـ لم تصل له بعد أكثر من قرنين من التحديث !. آخر اللحظات الحرجة الكبرى التى عاشتها مصر كانت بعد هزيمة يونيو 1967 التى جعلت الدولة تترنح، وربما مازالت فى ترنحها حتى اليوم رغم إنجاز حرب أكتوبر 1973 الذى أعطى البلاد الفرصة لكى تقوم الدبلوماسية بتحرير الأرض المحتلة، ولكنها لم تنجح فى تحرير مصر من تخلفها.. كانت هناك لحظات حرجة أخرى جاءت مع إرهاب التسعينيات من القرن الماضي؛ وأخرى جاءت مع عهد الثورات التى قادت إلى خريطة طريق لا تزال تسير فى مجرى التطبيق.
«اللحظات الحرجة» تعبير ينطبق على حالة تمر بها الدولة عندما تتضافر مجموعة من الظروف الصعبة عليها فى وقت واحد؛ هو تعبير شبيه بآخر شائع عن «العاصفة الكاملة أو Perfect Storm» التى حدثت فى أكتوبر 1991، حينما تلاقت أشكال مختلفة من الطقس البالغ السوء مع أعاصير وأمطار ورياح عاصفة فى منطقة شمال المحيط الأطلنطي. فى وسطها تماما كانت سفينة صيد السمك «أندريا جيلي» تحاول البحث عن رزقها، فواجهت ما بات معروفا «بالعاصفة الكاملة» أى تلك التى لا يفلت أحد فيها ولا ينجو ولا تنجح معها محاولات الإنقاذ. غرقت السفينة، ولكن الصيادين فيها جرى تخليدهم فى فيلم شهير بذات الاسم عام 2000 بطولة جورج كولونى مع نخبة أخرى من النجوم. ومن وقتها صار تعبير «العاصفة الكاملة»، بالإضافة الى وصفه متغيرات الطبيعة، مفهوما سياسيا واجتماعيا يجرى استخدامه عندما تتلاقى عناصر وعوامل وأسباب عند نقطة واحدة فتحدث فيها تأثيرا جوهريا، كحالات الحرب أو الثورة.
وربما كانت «اللحظات الحرجة»، هى تلك التى تسبق «العاصفة الكاملة» والتى إذا ما تمت مواجهتها بالحكمة الواجبة، فإنه يمكن ليس فقط تجاوزها، وإنما الانطلاق بعدها إلى آفاق بعيدة تزداد فيها قوة الدولة ومنعتها.. هى لحظات للقرار والقيادة، وكما يقال عن اللغة الصينية أن كلمة «أزمة» ـ وهى وصف آخر للحظات حرجة ـ تحمل فى طياتها النقيضان: الخطر والفرصة. وقد بدأت هذه الحالة فى مصر فى يوم 26 مايو المنصرم، حينما قامت جماعة إرهابية بالهجوم على قافلة من الحافلات التى تحمل مصريين مسيحيين فى رحلة تعبد فى دير صحراء المنيا. كان الخبر موجعا لما كان فيه من ضحايا (29 من القتلى وعشرات من الجرحي)، وفوق ذلك أنه كان شهادة على قدرة الإرهابيين على تنفيذ استراتيجيتهم فى استهداف مسيحيى مصر والتى بدأت مع قتل الأفراد فى مدينة العريش، ودفعهم مع أسرهم إلى الهجرة، ومن بعدها الاعتداء الآثم على الكنيستين فى طنطا والاسكندرية. وكان الاستهداف يضع مصر وتماسكها الوطنى وسمعتها الدولية فى اختبار صعب، فلا يوجد ما يثير العالم قدر استهداف البشر بسبب دينهم أو أعراقهم. صحيح أن الإرهاب لم يكف أبدا عن قتل المسلمين أيضا، وبسبب دينهم أيضا باعتبارهم «كفارا» لا يأخذون بدين الإرهاب؛ فإن ما يظهر فى العالم هو الصورة التى شاهدها طوال الأعوام الماضية فى دول أخرى فى المنطقة.
الحدث الإجرامي، وضعنا مرة أخرى أمام لحظة حرجة للتعامل مع الضرورات الأمنية التى لا بد منها للتعامل مع الأزمات السياسية والاقتصادية التى تمر بها البلاد. فالدولة التى لم تفق بعد من المواجهات الثورية المتتابعة بعد ثورة يناير 2011، بات عليها أن تخوض معركتها الاقتصادية الكبرى وسط ظروف غير عادية لا يتحملها لا سائح ولا مستثمر. صحيح أن هناك عملية إصلاح اقتصادى كبيرة تجرى فى طول البلاد وعرضها، وصحيح أيضا أن الدولة تحرز نجاحات فى وجه الإرهاب، وصحيح ثالثا أن الدولة عبر مؤسساتها التنفيذية والقضائية والتشريعية تحاول عبور الظروف الصعبة، وصحيح رابعا أن استخدام القوة العسكرية ضد الجماعات الإهابية فى ليبيا كان إشارة إلى حزم مصر وعزمها على أن ترد الصاع صاعين؛ إلا أن العمل الإرهابى يضع كل ذلك فى موضع الشك، ويثير الكثير من التوجس، ويجعل الثقة فى المستقبل غائبة، لأن الظن أنه لن يكون آخر العمليات الإرهابية.
من هنا، فإن هناك ثلاثة أمور واجبة: أولها تهيئة الرأى العام إلى أن المعركة مع الإرهاب مستمرة، وهذه الحالة لا تخصنا فقط وإنما العالم كله؛ وثانيها أننا جادون كل الجد فى تحقيق المصالح المصرية العليا، هى الحالة التى عرفناها كثيرا فى تاريخنا المعاصر، أن تحمل يد السلاح بينما تستمر اليد الأخرى فى البناء، وثالثها أن كثيرا من التواصل بين القيادة والجماهير مطلوب، بكثير من المعلومات، ووفرة فى المعرفة، وتعبئة ضرورية للهمم. المسألة ببساطة هى أن هناك حربا جارية فى مصر، تشنها جماعة الإخوان بالتحالف مع جماعات راديكالية أخرى تحمل أسماء عدة (داعش والدولة الإسلامية وولاية سيناء وولاية الصعيد) ولكنها كلها تعمل وفق استراتيجية واحدة لتدمير الدولة المصرية.. هذه الإستراتيجيات تحتاج إستراتيجيات مقابلة، ولا تقوم إستراتيجية دون معلومات وأهداف واضحة، وقد سبقت المناداة بضرورة وجود مركز لمكافحة الإرهاب يفكر مع الدولة فى كيفية تحقيق النصر فى هذه المعركة، وفى وقت آخر طرحنا الحاجة إلى مركز آخر يعبئ قوة مصر الناعمة التى لا غنى عنها فى هذه الحرب. الخروج من اللحظات الحرجة .ممكن إذا ما أعددنا للأمر عدته.