جلاء جاب اللة
.. والسلام ختام .. من سرق المصحف .. فليعده !
"كلكم يبكي.. فمن سرق المصحف"؟ هكذا قال إمام أحد المساجد للمصلين بعد أن وجدهم خاشعين في صلاتهم خلفه لكنه اكتشف سرقة المصحف فتساءل إذا كنتم كلكم بهذا الخشوع فمن سرق المصحف؟ تلك القصة الشهيرة لم تكتمل.. لأن بقية الكلمة أو السؤال الذي قاله الإمام كان يجب أن تطالب السارق بالتوبة وإعادة المصحف حتي لو سراً لأن السؤال وحده لا يكفي.. فمن سرق المصحف فعليه اعادته ويتوب..!!
تذكرت هذه الواقعة بعد مشاركتي ضيفا في ملتقي الفكر الإسلامي بالحسين والذي تنظمه وزارة الأوقاف وبدعوة كريمة من معالي وزير الأوقاف وكنت علي المنصة بصحبة أساتذة كرام أفاضل حيث كان الأستاذ الدكتور الداعية عبدالله النجار هو المتحدث الأول وكان الأستاذ الدكتور محمد أبوهاشم نائب رئيس جامعة الأزهر هو المتحدث الرئيسي.. وثالثهما كاتب هذه السطور.. كان الحديث حول الأخلاق وأثرها في تربية المسلم.. والحوار كان رائعا تطرق إلي أبعاد الأخلاق وأثرها الإيماني باعتبار ان الإيمان هو ذاته الأخلاق الطيبة وان رسالة محمد - صلي الله عليه وسلم - كانت كما قال "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".. وأن رسولنا الكريم هو الخلق ذاته.. وكان خلقه القرآن.. وشهد الله أنه - أي - رسولنا الكريم ذو الخلق العظيم "وإنك لعلي خلق عظيم".
ولأنني تحدثت عن أثر الأخلاق السيئة في الانسانية وكيف أن "الكبر" كان أول خطيئة في تاريخ الانسانية منذ خلق الله آدم وأمر الله ملائكته أن يسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي واستكبر فجعله الكبر خارجا عن أمر الله.. وطرد من نعمة الله مذموما وأعلن نفسه عدوا لآدم وذريته.. فكان الكبر هو أول خلق سييء يفتح باب النار.. وهو نفسه الخلق السييء الذي كان عنوان كفر فرعون وقارون.. حيث طغي فرعون وتكبر وقال أنا ربكم الأعلي.. وتكبر قارون وقال عن ماله إنما أوتيته علي علم عندي فكان الكبر طريقهما إلي أن يخسف الله الأرض بقارون ويغرق فرعون في اليم مع قومه.. ويموتا كافرين.
والحسد أيضا آفة ثانية تؤدي إلي النار.. وكانت أول جريمة بشرية عندما قتل قابيل أخاه هابيل حسداً لأنه تقبل من أخيه ولم يتقبل منه والظلم هو الخلق السييء الثالث الذي يؤدي إلي أبواب جهنم.. سواء ظلم الانسان نفسه بكفره أو الاثم الذي يقترفه أو ظلم غيره "اللهم إنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا نكن من أهل النار".. وهكذا فكما تؤدي الأخلاق الطيبة للجنة فإن الأخلاق السيئة طريقها إلي النار وبئس المصير.
عقب انتهاء الملتقي سألني سائل وأنا في الطريق: إذا كنا نعرف أن هذا هو الطريق الصحيح فلماذا نفعل الخطأ؟ إذا كنا نعرف الأخلاق الطيبة فلماذا نفعل الأخلاق السيئة؟ لماذا يوجد داخل كل انسان نفسان: نفس أمارة بالسوء تدعوك للخطأ.. ونفس طيبة تدعوك للصواب؟
قلت له: ألم تقرأ في القرآن "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".. الانسان علي نفسه رقيب.. ولو لم يكن الانسان خطاء ما كان باب التوبة مفتوحاً دائما أبداً.. فالله غفور رحيم تواب يقبل توبة عبده إذا تاب توبة صادقة وعمل صالحا وأناب..!!
قال لي وكأن اجابتي لم تقنعه.. لكننا نفس الشخص ونفس الحال: نبكي من المواعظ.. وبعدها مباشرة نكذب ونجلس في مجالس النميمة وكأننا لم نكن منذ لحظات نبكي خوفا وطمعا..!!
لم أكن أعرف ان هذه القضية تشغل بال الكثيرين وأنا منهم إلا بعد أن جلست مع مجموعة من الأصدقاء.. نتحاور في قضية التدين والأخلاق في رمضان.
البداية كانت من أحدنا وهو يتساءل: هل يمكن أن نسمي حالة التدين التي نعيشها في رمضان دون غيره حالة من النفاق وأننا نكون بذلك منافقين؟
قلت وأنا أؤكد بداية انه رأي وليس فتوي وأنني مجرد مجتهد في قضية عامة ولست صاحب رأي أو فتوي في قضية الحلال والحرام.. فلست مؤهلاً للفتيا ولا أتجرأ علي الفتوي.. قلت: ولماذا لا يكون هذا التصرف من تعظيم شعائر الله.. ومن تعظيم شهر الصوم والقرآن والبركات والخيرات؟
وقد أمرنا الله بأن نعظم شعائره.. فلنعتبرها من تعظيم شعائر الله وشهر الله الكريم.. شهر الصوم فالصوم لله وحده وهو الذي يجازي عليه وحده.. ورمضان شهر القرآن.. وفيه ليلة هي خير من ألف شهر.. فلماذا لا يكون التدين في هذا الشهر من تعظيم شعائر الله بدلا من أن نسميه نفاقاً؟
أعادتنا هذه القضية إلي حكاية المصحف المسروق؟ فهل يكفي أن نبكي علي سرقة المصحف أم نطالب السارق بالتوبة وإعادته؟
كلكم يبكي.. كلكم تأثر بالموعظة.. وعرف ربه ومع ذلك من بيننا من سرق المصحف فهل هو انفصام في شخصية المجتمع.. أم جهل في المعني الحقيقي للدين.. أم أن هذا هو حال الانسان.. أي انسان؟
في صلاة التراويح تجد المساجد.. بل والشوارع - مزدحمة بالمصلين.. الكل خاشع.. بل وبعضنا يبكي وهو يؤمن علي دعاء الإمام في قنوت الوتر.. وهذا البعض نفسه لا يصلي الفرض في المسجد.. ينام عن صلاة الظهر والفجر وهما فرض.. وينسي أحيانا صلاة العصر وهو فرض فهل نطالبه بعدم صلاة التراويح.. أم نحبذ صلاته ونحييه ونشجعه علي الفرض أولاً؟
كلكم يبكي.. فمن سرق المصحف؟
المساجد ممتلئة عن آخرها.. وأهل الخير بالعشرات في الطرقات عند أذان المغرب يرجون رحمة ربهم في إفطار صائم ولو علي تمرات أو شربة ماء وهم فرحون برضا الله وأنهم يؤدون عملاً صالحاً لوجه الله في إفطار صائم.. وفي نفس الوقت بعضهم يعتبر التجارة شطارة ويحتكر السلعة ويرفع سعرها ويبيعها بأسعار خيالية ويمارس فنونا في التجارة تعارض آداب الشرع.. فماذا نسمي ذلك؟ أليست هي نفسها: كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟
أعرف أننا بشر.. وأننا لسنا ملائكة.. وكاتب هذه السطور يتوب كل يوم عشرات المرات ويستغفر ربه علي ذنوب اقترفها.. وكلنا خطاءون وخير الخطائين التوابون.. ولو لم نخطئ فنتوب لجاء الله بقوم غيرنا يخطئون فيتوبون ويتوب عليهم لأنه هو سبحانه التواب الغفورالرحيم.
كلنا خطاءون.. ولكن الأهم أننا نتوب.. والتوبة النصوحة تبدأ بالاعتراف بالذنب أمام الله فلنعترف بسرقة المصحف أولاً أمام الله.. ولنعترف بالخطأ.. ونتوب ونندم.. ونبكي علي ما اقترفته أيدينا.. وندعو الله مخلصين له الدين بأن يغفر لنا لأننا أخطأنا ويتوب علينا وأن يقوينا ويساعدنا علي ألا نعود إلي المعاصي أبداً.
وقد نعود لسبب ما.. فنتسارع إلي التوبة والندم وطلب المغفرة فإن الله يقبل التائبين ويفرح بتوبة عبده المذنب الذي يعرف أن له ربا يراقب ويعلم الذنب.. ويقبل التوبة ويقول رب العزة: "علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب فتاب فأشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له".. مادمت حسن الظن بالله وتعلم أنه هو الغفور الرحيم التواب الكريم ذو الفضل.. وذو الجلال والإكرام.. وتعلم أن الله لطيف بعباده خبير بهم.. هو الذي خلقهم فعرفهم فتاب عليهم.. ولولا أنه سبحانه وتعالي أراد وشاء - ولا راد لمشيئته - ان يتوب علينا ما علمنا التوبة وما أجري التوبة في قلوبنا وعلي ألسنتنا.. فكانت مشيئته أن يتوب علينا.. فجعلنا نتوب بكرمه وعطائه ومنه وفضله ورحمته سبحانه وتعالي.
مادمنا نبكي جميعا من المواعظ ونعود إلي الله ونعي معني العبادة ونتقي الله ونصلي ونصوم ونذهب إلي العُمرة وندفع مليارات من الجنيهات فهذا شيء رائع ولكن نعيد المصحف إلي مكانه.. ونعطي للفقراء حقهم في مال الله.. ونطعم المساكين والفقراء واليتامي.. ونعود إلي الله بقلوبنا ونتوب بصدق علي أن نعمل صالحاً لله بعد التوبة فيقبلها الله منا.. ساعتها سنعيد المصحف إلي مكانه لعل الله يقبل توبتنا ويرضي عنا.. لا يكفي أن نسأل من سرق المصحف؟ بل علينا أن نطالب السارق بالتوبة وإعادته إلي مكانه أولاً..!!
همس الروح
¼¼ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين".
اللهم كما استجبت ليونس.. استجب لنا وكما نجيته من الغم.. نجنا يا رب العالمين.
¼¼ "وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو" اللهم.. لا كاشف للضر إلا أنت.. فاكشفه عنا ولا شافي سواك.. فاشف كل مريض ولا كافي لنا غيرك.. فاكفنا عمن سواك ولا معافي إلا أنت.. فبارك لنا يا ذا الجلال والإكرام.