الوطن
أمانى هولة
حكـايات وطن 113
(هنالك أيام فارقة فى حياة الشعوب.. أيام تصنع التاريخ.. تُرى هل نمر ببعض منها أم تُراها لحظات احتضار أخرى لشعب يموت..)

تلك كانت أولى كلمات مقالى فى يناير 2011.. ومرت السنون فى لعبة تبادل المقاعد والاتهامات بين أصدقاء الأمس وأعدائه.. وبلا تردد من إعادة النظر ومراجعة النفس.. ومقاومة السقوط فى مستنقع الكبر (والمقاوحة) أو على النقيض الانزلاق مع تدافع القطيع.. ما زلت أحاول أن أكون شجاعة لدرجة التوقف عن الحسابات التافهة لاعتبارات البشر.. ولكن الانحياز للحقيقة المجردة من المصلحة أو الهوى.. أتذكر أحلاماً ترجمتها يومها إلى كلمات ملأت بها الدنيا صياحاً فى خضم الحدث تقودها جياد الحماسة وعربتها.. لأقف عند كل منعطف جديد يطل علينا منه أحد أوجه الحقيقة؛ قبيح غالباً.. متجمل فى بعضها.. برىء فى قليل منها.. من زاوية رؤية تتسع بمساحات انقشاع الغيوم.. يبقى السؤال ذاته ملحاً.. هى ثورة ولّا مؤامرة؟.. فهل لك يا صديقى أن تبحر معى عبر طيات كلمات، كان وما زال التاريخ وصاحبة الجلالة شهوداً عليها حين نُشرت فى حينها.. وظلت مشروع كتاب عصىّ على الظهور للنور.. بحثاً عن تلك الغائبة الحاضرة.. إنها الحقيقة.

القمر دائماً بدر فى ميدان التحرير.... ينثر فضته السحرية بسخاء.. تغمر المكان وتنساب على الوجود فيبدو من داخلنا كل ما هو جميل.. حتى على هؤلاء الموصومين بالبلطجة والإجرام، بداية من الأطفال والصبية الواقفين على أعتاب رجولة مبكرة جاءت قبل أوانها بعد أن سواها لهيب التجارب المؤلمة وشوارع من نار لا ترحم ولا تدلل الأطفال.. أخصهم أكثر لما لمسته فيهم من تأثير سحرى وكأنها فرصة أخيرة لاستعادة أحلامهم الموؤودة.. يحمل بعضهم كراريس وأقلاماً وقد تبرع بعض النبلاء بتعليمهم القراءة والكتابة.. يفاجئنى مساعدى محمد وهو فنان ومصمم جرافيك وقد انهمرت دموعه.. فقد ظل أحدهم مرافقاً له كظله وكأنه وجد مثلاً أعلى يحتذى به ويقلده فى كل شىء.. حتى عندما حدث إطلاق نيران كثيف ظل يحميه بجسده مقاوماً قوانين الطبيعة وغريزة حب البقاء.. رافضاً كل محاولات محمد لإبعاده.. وكانت إجابته الموجعة لسؤال صعب: «لماذا؟».

- لأن أنا ماليش حد يزعل عليّا ولا هأفرق لو رُحت.. لكن أنت ليك أهل هيتقهروا عليك..

لأفيق على تعليق لا يقل ألماً عن سابقه من شاب يافع رقيق الحال تشى بشرته بفقر كل شىء حتى الدم وملابسه القديمة غير المناسبة لقياسه مما يدل على أنها تم إهداؤها له ولم تتعرض للكىّ ولكنها نظيفة.

- يا أبلة أنا لابس أحسن حاجة عندى علشان لما أموت ما يقولوش عليّا بلطجى.

فبماذا يوصف ذلك النظام الذى جرد حتى الأطفال من إحساسهم بوجودهم وسرق منهم الأمل والحلم وجعل الموت عندهم يتساوى مع الحياة.

وهكذا أستطيع ملاحظة كثير من الشباب البسيط تلمح على وجهه علامات لا تخطئها عين طبيب.. إنها علامات الفقر والشقاوة.

- فعلامات الفقر هى بقع فاتحة و(قشف) وعدم تجانس فى لون البشرة واصفرارها نتيجة نقص شديد فى التغذية منذ الصغر لعدم تناول قدر كاف من البروتينات والفيتامينات والمعادن، خاصة الحديد، والمتوافرة فى اللبن واللحوم والكبد والفاكهة والتى على ما يبدو نوع من الرفاهية بالنسبة لكثير منهم.

-أما علامات الشقاوة (أو الشقاء) فهى غرزتين ذات اليمين أو الشمال، انحراف فى الأنف نتيجة كسر لم يحظَ بعملية تجميل لإصلاحه.. آثار جروح قديمة لم تُطهّر جيداً فتركت خطاً داكناً لا يزول.. أو جرح قطعى مخطط (بشلة ولامؤاخذة) تستطيع عد غرزها بوضوح، وكأن الشىء الوحيد المتاح وقتها لتقطيبها كانت إبرة منجد...

والغريب أنه كثيراً ما يجتمع الاثنان فى الوقت نفسه (علامات الفقر والشقاوة) وكأنهما مرتبطان.. فالفقر هو الأب الشرعى لكل ما يشقى الإنسان.

لم أشعر بأى خوف أو غضاضة فى الاقتراب منهم...

حتى علامات الاستفهام التى كنت ألمحها فى عيونهم لم تضايقنى لأجيب بالنفى عن سؤال لا أعرف لماذا أجمعوا عليه: «هو حضرتك مذيعة؟».

وجدتنى أتحدث إليهم بحب واحترام شعرت أنهم يبادلوننى إياه، لقد زال حتى حرصى على مراعاة المسافة بيننا لأنهم كانوا يراعونها أكثر منى ويصنعون من أنفسهم سياجاً بشرياً لحمايتى يبتعد عنى شبرين على الأقل (وهى مسافة رائعة فى هذا التزاحم المخيف) متحملين تدافع المتحمسين بدون قصد عليهم لتفادى الاندفاع نحوى.. وللحديث بقية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف