الإسكندرية فى أول الصيف؛ عروس البحر كما رآها البحارة الحالمون ذوو المزاج الشعرى: الجمال الخارج من البحر ليستريح على صخرة فى ضوء القمر.
كان ذلك فى الستينيات، حين كانت ترحل الأسرة فى مثل هذا الوقت من شهر يونيو إلى ذلك البيت الخشبى من طابقين فى سيدى بشر. كان مبنى بسيطا متواضعا فى زمن بسيط لم يُصب بعد بداء الطموح المتوحش الناشئ فى حضن من الفساد غير المسئول.. تجتمع الأسرة فى ذلك البيت الخشبى: الجد والجدة والبنات وأزواجهن وسرب الأحفاد الذين كنت واحداً منهم.. نجتمع أحياناً فى منتصف الصيف (بدءاً من يوليو)، وأحيانا فى أوله فى شهر يونيو، حيث الجمال السكندرىّ لم يفسده بعد زحام القاهريين..
الآن نحن فى التاسع من يونيو، لكن عروس البحر ليست تلك الجميلة الإنسية التى قدماها ذيل سمكة؛ بل تحدث للأسف وطوال عقود أشياء تذكرنا بالأصل الواقعى لأسطورة عروس البحر: تلك السمكة التى تنتمى للثدييات والتى يشبه نصفها الأعلى أنثى بشرية شديدة القبح، كما وصفها لنا بالتفصيل أديبنا صبرى موسى فى رائعته «فساد الأمكنة».. ويا لها من مصادفة ذات معنى أن يحمل عنوان هذه الرواية الجميلة العميقة كلمة «فساد».. لأن عروس البحر العجوز الواقعية, البعيدة عن سحر ضوء قمر الحواديت, تطالعنا الآن بقبحها، حين نتأمل الأبراج والعمارات العالية التى انتشرت فى الإسكندرية الجميلة فى العقود الأخيرة, والتى هى فى الأصل بيت من طابقين - مثل الشاليه الذى كان يجمعنا فى الإسكندرية كل صيف- لكن الطموح الجنونى والفساد غير المسئول حوّلا المبانى البسيطة لمسوخ طوال القامة على غير أساس متين، فمنها من مال به الطموح الفاسد على ما حوله من مبان، ومنها ما انهار على سكانه وسكان البيوت المحيطة. صارت تلك الانهيارات للأسف وحدة ضبط إيقاع الحياة فى الإسكندرية ، التى يحزننا لها وعليها ما نتذكره من أيامها وأيامنا الجميلة ، حيث كنا صبية وكانت هى صبية فاتنة، عروساً بحق للبحر المتوسط.
لم تكن مجرد مدينة ساحلية؛ كانت أيضاً مصيفاً دافئ الرمال نظيفها, تمتد بلاچاته بامتداد كورنيش الإسكندرية الطويل التى تنشرح بمجرد المشى فيه صدور القاهريين المأزومين طوال العام، وأنا وأهلى منهم، حيث تحتضنهم الصبية الجميلة الحنون وتمسح عنهم عسف الزحام وحرارة الجو الخانق فى صيف القاهرة الستينية السبعينية، حين كنت أنا طفلاً فمراهقاً عاشقاً للإسكندرية..
ثم حدث ما حدث، منذ النصف الثانى من السبعينيات، وتغير أهل الإسكندرية ومصطافوها نتيجة التغيرات التى أصابت المصريين بشكل عام، ثم بدأ بحر الإسكندرية يتلقى ماء مجاريها ، ثم أكل كورنيشها شواطئها وبلاچاتها، وتحولت الإسكندرية إلى مجرد مدينة ساحلية، بعد أن كانت ملاذ المصريين فى حر الصيف وملعب سمرهم ومرح أطفالهم. ولا شك أن تطوير كورنيش الإسكندرية كان إنجازا رائعا ميسرا للحياة بالنسبة لسكان المدينة ونال استحسانهم واستحسان الزوار, إلا أنه قضى على كثير من الشواطئ والبلاجات.
وفى أثناء ذلك، كانت البيوت التى لا تحتمل أساساتها سوى دورين أو ثلاثة أو أربعة، كانت تتعملق بفعل الطموح المجنون والفساد الذى يحتضنه, لتسقط بعد ذلك على رؤوس ساكنيها، وفى أحسن الأحوال تميل على البيوت المجاورة كأنها تريد أن تشكو للجيران حالها.. كما يفعل الآن برج الإسكندرية المائل, الذى يشكو للجيرة حالها المائل فى ظل الفساد.
لكن الإسكندرية لا تستحق هذا القبح المتهور الذى أحدثه طموح بعض أبنائها وفساد بعضهم الآخر. لا يستحق سكان عروس البحر المتوسط - كما رآها الحالمون المحبون للجمال - هذا الخطر الجاثم وهذا القبح المحيط.. وأعتقد أن معظمنا له فى الإسكندرية ومعها ذكريات جميلة.. فباسم ذلك الجمال العريق أنقذوا الاسكندرية واستأصلوا من ترابها الزعفران شوك الفساد والقبح والطموح القاتل الذى أصاب البعض من أبنائها.