اتسعت الخلافة العباسية شرقًا وغربًا وزادت مسئولياتها، إذ من الواجب كلما اتسعت المساحة وتباعدت الحدود كان لزامًا على الدولة أن تمد خدماتها الدفاعية والأمنية إلى كل نقطة على الحدود مهما كلف ذلك. كما أنه من الواجب كلما تزايدت أعداد المواطنين تزايد معها جميع الخدمات الضرورية لاستقرار الحياة. فتتزايد الأسواق، وتتوافر السلع، وتعتدل الأسعار، كما يتزايد مع ذلك خدمات الحفاظ على الصحة العامة من خدمات وقائية وعلاجية، كما أن أهمية الطرق والمرافق العامة (الكهرباء/ المياه/ الصرف الصحى/ المواصلات/ الاتصالات) كل ذلك وما يشبهه من أولويات الخدمات. كذلك فإن انتشار فروع لجميع مؤسسات الدولة فى كل إقليم ومحافظة من الضرورة بمكان حتى لا يرهق المواطن إذا اضطر للذهاب للعاصمة المركزية للحصول على ما يريد. ولا تنس خدمات التضامن والتكافل التى تساعد ذوى الظروف الحرجة وذوى الدخل المحدود.
ــ1ــ
ومن أبرز مسئوليات الدولة لتحقيق السلم الداخلى بين المواطنين مسئولية توفير وتوصيل «آليات العدالة الناجزة» إلى كل إقليم أو محافظة أو أى تقسيم يضم من الناس عددًا أقله 5000 مواطن. وآلية العدالة الناجزة هى المحاكم سواء باختلاف درجاتها أو باختلاف تنوع اختصاصاتها. وقيامًا من الدولة العباسية بواجبها فقد نشرت القضاء فى ربوع الدولة شرقًا وغربًا. وبذلك زاد عدد القضاة كما زادت أعداد معاونى القضاة. وإدارة مؤسسة العدالة حمل ثقيل وهى جزء رئيس من مسئولية «أولى الأمر» فلابد أن يتفرغ لها قوم متخصصون يدبرون شئون القضاء والقضاة بما يعطى المواطنين حقهم ويعطى الدولة هيبتها ويحقق للمجتمع أمنه وسلامته. لذلك أقدم «هارون الرشيد» على هذه الخطوة المهمة فى تنظيم القضاء وتحديد مسئولياته وتحميلها لمن هم أهل لها حتى يستطيع مسآلتهم بوضع تخطيط وتنظيم بذلك، وألقى مسئولية تنفيذه ومتابعته على كاهل الفقيه الجليل «أبا يوسف» صاحب أبى حنيفة وتلميذه، ومنحه لقب «قاضى القضاة». وكان هذا التعيين أول تنظيم لخدمات العدالة وأول خطوة عملية نحو تحقيق وتأكيد مبدأ «استقلال القضاء والقضاة».
ــ2ــ
ولا يغرنك ما تعودنا عليه من كثرة الألقاب وضخامتها فتظن أن منصب «قاضى القضاة» منصب شرفى أو مجرد لقب تكريمى. كلا فإن لقب «قاضى القضاة» لقب صدق يفتح بوضوح مسئولية «استقلال القضاء» ويتولى متابعة ذلك بكل الوسائل المتاحة. وهل يوجد فى هذه الدنيا عمل لا يحتاج إلى المتابعة والمراجعة والتصحيح والتأديب؟ وأيضًا هل يوجد عمل فى الخدمات العامة محصن ضد الفساد والإفساد؟! فالقضاة والفقهاء بشر مثل غيرهم لا بد أن يجدوا فوقهم إشرافًا ومتابعة وتصحيح ولكن بشرط عدم التدخل فى شئون القضاء من سلطات أخرى. لذلك جاء منصب قاضى القضاة ابتكارًا من هارون الرشيد وتأصيلًا وتنفيذًا من «أبى يوسف» بداية تاريخية صحيحة لتنظيم القضاء واستقلاله ومتابعته وضمان تصحيح مساره واستمرار تنقيته مما قد يزحف عليه.
ــ3ــ
ما أن صدر قرار «هارون الرشيد» بإنشاء منصب قاضى القضاة والعهد به إلى «أبى يوسف» أبرز تلاميذ أبى حنيفة وصاحبه، حتى أطلق الفقهاء على أبى يوسف ومحمد بن الحسن الشيبانى لقب «صاحبا أبى حنيفة»، وفور صدور القرار كان هارون قد اقتطع من ميزانية الدولة قدرًا لا بأس به خصصه لرواتب القضاة وأعوانهم وإنشاء مجالس القضاء. فضلًا عن تحمل تلك الميزانية بتعويض كل من أصابه ضرر نتيجة خطأ الأحكام القضائية. وسرعان ما قام المسئولون فى ديوان الخلافة بواجبهم نحو تحويل قرار الأمير إلى حقيقة واقعة فتم صناعة ثوب خاص يميز هذا المنصب طبقًا لأعراف زمنهم، وتم إعداد مراسم التولية وكتابة خطاب التكليف ودعوة كبار رجال الدولة والمجتمع لحضور تلك المراسم.
يتبع