الأهرام
د . محمد حسين ابو الحسن
«مهندس الدمار» يلعب على حساب العرب
لايحتاج أى متابع إلى مقدمات، حتى يقول باطمئنان: إن زبجينو بريجينسكى مستشار الأمن القومى الأسبق، عقل جبار زعزع عروشا وأنظمة مستبدة وصنع أخرى أكثر تدميرا ووحشية، أحد أخطر الأدمغة فى دهاليز السياسة وبناء الامبراطوريات على أنقاض غيرها، أطلق «مارد التطرف والإرهاب الدينى» من قمقمه، لتدمير الاتحاد السوفيتى، فلما تحقق له ما أراد، انقلب السحرعلى الساحر، تجرعت أمريكا نفسها مرارة الضربات الإرهابية وقسوتها، فى الحادى عشر من سبتمبر، زلزال استمرت توابعه تهز العالم بعنف مفرط، وتمزق أحشاء الشرق الأوسط وتفتت دوله.

منذ أيام معدودات، رحل عن عالمنا، بعد 90 عاما، قضاها فى ممارسة «لعبة الأمم»، بقاعات الدرس الجامعى، أومن غرف السلطة التى أتقن سطوتها وعشق شهوتها. وباستثناء هنرى كيسنجر ثعلب السياسة الدولية، لا أحد أمكنه التفوق على بريجينسكى الذى فتح صندوق الشر «الباندورا»، فاكتوى العالم بجحيمه. عقب الحرب العالمية الثانية برزت الولايات المتحدة قوة عظمى، استثمرت تراجع بقية اللاعبين الدوليين، خاصة بريطانيا وفرنسا، ثم استدرجت الاتحاد السوفيتى إلى حرب باردة «هادرة»، أربعة عقود، استنزفت قواه، وبانهياره منح أمريكا مقعد القيادة والسيطرة المتفردة، ومازالت تحاول عرقلة أقرب منافسيها «الصين»، ليظل القرن الحالى أمريكيا، كسابقه.. إنه صراع الجبابرة على رقعة الشطرنج الدولية.

يقول الفيلسوف الإيطالى جرامشى إن الفلسفة الحقيقية لرجل السياسة تظهر في ممارسته السياسية. كلام جرامشي ينطبق على بريجنيسكي الأمريكى البولوني الأصل. بينما تظل مؤلفاته صورة لفكره وممارسته ومنظوره للعالم، قبل أن تكون تفتيشا عن حقيقة تاريخية أو تنقيبا عن درس أخلاقي. فى كتبه «خارج السيطرة» و«القوة والمبدأ» و«خطة اللعبة» و«رقعة الشطرنج الكبرى» وغيرها، يطالعنا الرجل ببراعة تفكيره الاستراتيجى وقدرته على صوغ «الغايات» واتخاذ القرارات الكفيلة لكسب المواقف، فى ظروف تنافسية حرجة، إنه أحد «مهندسى تدمير الامبراطوريات» والميكيافيلية وفصل الأخلاق ــ الإنسانية ــ عن السياسة، بحيث لايمكن فهم أهداف الولايات المتحدة والقوى الدولية والإقليمية المنافسة، فى منطقتنا، ما لم نتوقف، بعناية لائقة، أمام رؤى خريج «هارفارد» المتخصص فى شئون المعسكر الشيوعى، و«أستاذ» العلاقات الدولية والأخطار الجيوسياسية الكبرى، اقترب مبكرا من السلطة فى إدارة كينيدى، على أكتاف رجل الأعمال روكفلر، وصولا إلى العمل مستشارا للأمن القومي مع الرئيس الأمريكى كارتر، فانتهج سياسة واقعية وتصادمية مع موسكو، ونجح في الاستيلاء على عملية صنع السياسة الخارجيّة من سيروس فانس وزير الخارجيّة الأمريكى آنذاك، والذى استقال بدوره احتجاجاً على ألاعيب بريجينسكى، الأخير كان يقول إنه لا منافسة بينه وبين فانس، لأنه لا يحوز رؤية استراتيجيّة. بنى بريجينسكى سياساته على الهيمنة على منطقة «أوراسيا» الممتدة من أوروربا الشرقية، مرورا بالشرق الأوسط ، وصولا إلى آسيا الوسطى، وحولها قارات العالم القديم الثلاث، ودفع الاتحاد السوفيتى إلى التقهقر، ثم الزوال، بتوظيف أدوات القوة الناعمة والخشنة، وكانت صناعة الجهاد وحروب الأصوليات الدينية أبرز الأدوات الفتاكة، تأسيسا على أن عالما بدون سيادة أمريكا، سيكون أكثر عنفا وفوضى، أقل ديمقراطية، أدنى في النمو الاقتصادى. إنها «عنجهية» المركزية الغربية، التى تطمس حقائق طغيان الأقلية الغنية واستئثارها بثروات العالم، وإلقاء الأغلبية تحت خط الفقر. الأكثر إيلاما، أن بريجينسكى «المثقف» وهو يفعل ذلك، أيقظ وحوش الإرهاب الدموى، طابورا طويلا ضم الإخوان والقاعدة وليس انتهاء «بداعش»، فارتفع منسوب البؤس والشقاء في بلاد العرب والمسلمين، ووصلت شعوبها إلى حدود الفناء والإبادة البشرية، صحيح أنه عارض الغزو الأمريكى للعراق، لكن ذلك جاء حرصا على عدم تبديد قوى بلاده، ووصف الأمر فى كتابه «فرصة ثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوّة العظمى الأمريكية» بالقيادة الكارثية، ودعا إلى تعاون الولايات المتحدة- من موضع القيادة لا الهيمنة- مع اللاعبين الآخرين، ضمانا للاستقرار الدولي.

رحل بريجينسكى بعد أن صال وجال فى أروقة صنع القرار والسلطة، معتمدا التحليل فهما والتوقع أداة والاستراتيجية إبداعا، بيد أن أفكاره تتجلى فى الواقع العربى الراهن، معادلات مصبوغة بالدم والعنف والقهر، بمعونة «خونة الداخل»، فى نظام عالمى جديد يولد من رحم القديم، تتبدى إرهاصاته بأيدى دول وجماعات تلعب على حساب العرب وبأموالهم ومقدراتهم وأقدارهم. وينسى بعضنا أن استرضاء الأعداء بأى ثمن أقصر طريق إلى الحروب، وأن التاريخ يواصل حركته، ويحدد نهايات طرقه، سواء تنبه أصحاب القرار فى حينه واستجابوا، أم غفلوا واستناموا، حتى باغتهم الأوان..!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف