انتصف الشهر الكريم وقد أجهز علينا التليفزيون تماما.. بمسلسلاته التى تستنفد وقت المشاهد فى دراما لا طائل منها إلا من رحم ربى.. وإعلاناته الاستفزازية.. وبرامج (المقالب) المهينة والمملة.. فالمشاهد المسكين.. لا يجد أمامه سوى حلين.. فالمسلسلات والإعلانات أمامه.. و(رامز تحت الأرض).. و(هانى هز الجبل) خلفه!
فوسط هذا الكم الهائل من المسلسلات المملة.. لا نرى سوى أربعة أو خمسة مسلسلات تحترم عقل المشاهد.. فبإجماع المشاهدين.. هناك بعض المسلسلات لاقت استحسان معظم المشاهدين كمسلسل (واحة الغروب) للكاتب الكبير بهاء طاهر.. أو (الجماعة) للكاتب الكبير وحيد حامد أو (لا تطفئ الشمس) بمعالجة عصرية للفيلم الشهير.. إلى جانب بعض المسلسلات الأخرى القليلة.
أما برامج (المقالب) فهى ميلودراما سوداء أيضا.. وليست مضحكة.. ولا ممتعة ولا يحزنون.. وإنما هى مجرد استخفاف بعقول المشاهدين.. وإهانة لفنانين محترمين.. لست أدرى كيف قبلوا على أنفسهم إذاعة هذه المواقف المهينة والمُسفة من أجل حفنة دولارات (!!).
أما الإعلانات فقد حولت المصريين إلى ثلاثة شعوب.. ثلثه مريض بجميع أنواع الأمراض العضال.. وينتظر تبرعكم ليبنوا له المستشفيات.. والثلث الثانى أما غارم أو عطشان أو جائع وعارٍ وبلا طعام ولا ماء نظيف ولا سكن.. والثلث الأخير يسكن فى فيللات ومنتجعات سياحية خرافية.. تحتاج إلى أرقام فلكية.. لكى تسكنها كائنات من كوكب المريخ.. أما الشعب المصرى الحقيقى فله الله.. هم يربحون الملايين والمليارات.. ونحن يتحرق دمنا.
فشهر رمضان الذى ننتظره بلهفة.. تحول بفضل تجارة الإعلانات إلى سبوبة سنوية مرهقة للأعصاب ومضيعة للوقت.. فجميع القنوات تهاجمنا بسيل من الإعلانات.. وكأن هناك ماسورة إعلانات انفجرت فى وجوهنا.. فلا نحن بقادرين على أن نستمتع بالشهر الفضيل.. ولا بطعامنا ولا شرابنا.. ولا الأصحاء منا مستمتعين بصحتهم.. ولا المرضى مطمئنين على شفائهم أيضا.
فالأصحاء: هناك من ينغص عليهم عيشتهم ويحسدهم عليها.. ويذكرهم كل لحظة بأن نصف الشعب المصرى ــ والعياذ بالله ــ مريض بالسرطان والقلب والكبد والضغط والسكر والشلل الرعاش.
أما المرضى: فيعيشون فى رعب دائم.. ففى كل لحظة يشعرون بأنهم سيغادرون الحياة فورًا لو لم يضع المصريون فى عيونهم حصوة ملح.. ويتبرعون لهم بمصاريف العلاج وتشييد المستشفيات.
ولست أدرى كيف يُسْمَح بإذاعة هذه الإعلانات بهذه الكثافة والإلحاح طوال شهر رمضان خاصة مسلسل المرض والفقر وقلة الكساء والجوع المقزز.. الذى يظهر الشعب المصرى بهذه الصورة المذرية.. وكأننا مرضى نتسول العلاج من الميسورين.. عرايا نستجدى كسوة العيد من إحسانات الناس بملابسهم القديمة.. وجوعى وعطشى نأكل من الزبالة ونشرب من المستنقعات.. فكيف يتم تصوير الشعب المصرى بهذه الصور البشعة من أجل حفنة أموال! وكأننا شعب فقد كرامته وعزته.. وأدمن الإهانة والذل والمسكنة.. أمام العالم أجمع.. وكأننا شعب غير منتج لا يحب أن يعمل.. وأن كل طاقته وموهبته اختزلت فى الاستجداء والتسول.. وكيف نطعم 5 ملايين جائع.. أى 5 ملايين متعطل.. بلا دخل.. ولا أى مصدر رزق.. إذن نحن شعب كسول غير منتج! ولا يود أن يتعب حتى من أجل الحصول على قوت يومه! بل ونطلب التبرع لنطعم المزيد من الجائعين المتعطلين.. إنها صورة سلبية ومقززة للشعب الذى رفض الهزيمة فى 1967.. وضحى بقوت يومه للمجهود الحربى وإعادة بناء جيشه.. وقهر المستحيل وانتصر فى 197.. والآن يبنى مستقبله بمشروعات حضارية وقومية عملاقة غير مسبوقة.. إن شعبًا بهذا التاريخ العريق لا يستحق ولا يجوز إهانته بمثل هذه الصورة.. وليس من المقبول ولا من المستساغ ولا من الإنصاف أن يصور الشعب المصرى أمام العالم بهذه الصورة المهينة.. فهذا إسفاف وابتزاز لمشاعر الناس.. خاصة أن تكلفة هذه الإعلانات خلال شهر رمضان تتجاوز مئات الملايين.. فكيف بالله عليكم تلقون بهذه الملايين فى الإعلانات وأنتم تطلبون التبرع (!!).. أليس من الأجدى أن توفروا هذه الأموال وتشيدون بها المستشفيات.. وتعالجون بها المرضى.. وتكسون بها العرايا وتطعمون بها الجائعين.. بلا فضائح على الهواء مباشرة.. أم أن ابتزازكم يجلب عليكم أضعافًا مضعفة مما تنفقونه على الإعلانات (!!).. اتقوا الله فى شعب مصر الذى فضحتموه بين الأمم وفرجتوا علينا العالم أجمع.. الله يفضحكم يا بعدا فضيحة حرامى أحذية فى جامع.. كما فضحتوا الشعب المسكين فى الشهر الفضيل.