على عكس الأديان التاريخية التى لم تنف واقعية العبودية، فتصالحت معها أو استسلمت لها، وضد فلاسفة العصور الكلاسيكية الذين برروها بدوافع تتفاوت فى درجة عنصريتها، ذهب الفيلسوف هيجل، باسم التنوير، إلى الربط بين الحرية والإنسانية، فالحرية هى حركة الروح على طريق الوعى بالذات، ومن دونها يتحول الإنسان إلى جسد محض، شيء يمكن استعماله، ما يحيله عبدا يمكن امتلاكه. ومن ثم فسر هيجل مفارقة العبودية والسيادة فى التاريخ الإنساني، فأرجعها إلى تلك اللحظة الفاصلة التى عجز فيها شخص ما عن مقارعة شخص آخر أقوى منه، رفع السيف فى وجهه، فاضطر إلى الخضوع له، فالعبودية للسيد ليست سوى البديل عن الموت بالسيف، وهو اختيار ساد جل التاريخ الإنساني، حيث كان الوجود يمثل واقعة بيولوجية، فأن تكون موجودا يعنى أن تكون حيا وفقط، قبل أن تولد حساسية جديدة تمنح للوجود جوهرا سيكولوجيا، فلا يكون الإنسان موجودا ما لم يكن حرا، على نحو أفضى إلى ميلاد ثنائية حديثة تفترض التناقض بين طرفى معادلة: الحرية ـ الموت، بديلا عن الثنائية الموروثة التى كانت تفترضه بين طرفى معادلة: الحرية ـ العبودية، فالإنسان يموت ثقافيا وحضاريا إذا ما عجز عن تمثل أعظم ما فيه، وهو ملكاته العقلية الإبداعية، وأنبل جواهره وهو إرادته الحرة المريدة، إذ لا فارق جوهرى بين أن يقتلك اللص، أو ينقذك منه الشرطي، فارضا عليك الحياة فى كهف خشية لص آخر، ففى كهف الخوف يتساوى الوجود مع العدم، وتتماهى الحياة مع الموت.
فى عالمنا العربي، حيث لا يزال الفرد يعرف بقبيلته، ويصطف خلف شيخها من دون هوية واضحة تميزه أو قدرة على اتخاذ موقف تخصه. وحيث لا يزال الشخص يحاسب على أفعال طائفته، ويصطف خلف زعيمها، ولا يجرؤ على التصرف خارج إطار محرماتها. وحيث لا يزال الزعيم السياسى تعبيرا جمعيا عن روح الأمة، بعد الربيع الكسير كما قبله، من دون اعتبار لمكوناتها وتعدد رؤاها وتعاقب أجيالها أو حتى تباين ملامح رجالها ونسائها.. حيث ذلك كله أو بعضه لا يزال قائما، فإن الإنسان العربى لم يولد بعد، لقد انبثق كجسد من رحم الغيب، لكنه لم يولد بعد من رحم الحرية، كشخص فاعل، يملك فى التاريخ ولو أثر الفراشة.
وهكذا ظل الإنسان فى حضارتنا العريقة، ومدنيتنا المفترضة، من عصر الأولين والراشدين والصحابة والتابعين، إلى عصر الآخرين، الثوار والرواد والأبطال الخالدين، ومن النهضة الأولى البعيدة إلى النهضة الثانية القريبة، من عهود الممالك التليدة إلى زمن الجمهوريات العتيدة، شيئا قابلا للاستخدام والاستهلاك مثل عبوة بلاستيكية لمادة غذائية أو مشروب بارد كالكوكاكولا، بقيت كل السلطات قادرة على أن تفعل ما تريده من دون أن تشرح له، أن تحارب وتسالم، أن تمنح وتمنع من دون أن تشغل نفسها بإقناعه، أن تسمى أعداءها وأصدقاءها من دون أن يفهم هو أو يقرر، طالما انها قادرة على أن تسكته، أن تسوقه إلى الموت بلا ذنب ارتكبه أو جرم اقترفه، متصوفا كان أو ليبراليا، أو ملحدا، فقط لكونه أراد ان يكون حرا، أراد إنسانيته، واستمسك بكرامته. وعلى أن تبعث إلى السجون والمنافى بالشرفاء من مواطنيها وكأنهم مجرمون أو أعداء، من دون أن يهتز لها جفن، لا لشيء إلا لأنهم اعتنقوا آراء مخالفة لم تستطع ضمائرهم الحية كتمانها، فيما يرتع على أرضها المحتكرون للسلع، والمتلاعبون بالأسعار، بأبواقهم الناعقة، التى تنطق بالفجور وتدافع عن الباطل، وغيرهم كثيرون ممن يستحقون مقصلة السلطة وسندان القانون.
يستطيع الإنسان أن يكذب على الآخرين، يصدقونه أحيانا أو يكذبونه، وقد يكذب الآخرون عليه فيكشف كذبهم أو يضحكون عليه. والأمة قد تكذب على غيرها فتنال مصلحة أو تحقق عائدا، وقد تكذب عليها الأمم فتخسر هذا وتفقد تلك. يحدث هذا وذاك وتظل الحياة تدور، لكن هذه الحياة تصبح عبثا قاتلا على الفرد إذا ما اعتاد أن يكذب على نفسه، خصوصا إذا ما طال عليه الأمد ونسى أن يتذكر حقيقة أنه يكذب، فصار الكذب هو الحقيقة، فيما تصير الحقيقة إذا ما لاحت ولو مرة واحدة، هى الكذب. كما تصبح عبئا ثقيلا على الأمة إذا ما اعتادت أن تكذب على ذاتها، حتى صدقت نفسها، وصار الكذب حقيقتها الكبري. مثل هذه الأمة قد ترى فى الشقيق عدوا هائلا، مثلما ترى فى العدو الطبيعى صديقا ودودا، تجلس على حجره بأمان، بعد أن عجزت عن مجابهته بشجاعة. شريكا جديدا قررت أن تقبل يده، بعد أن عجزت الوصول إلى عنقه، رغم انها طالما ادعت المطالبة بها والسعى إليها وربما أعلنت الزحف عليه، مرة انطلاقا من بغداد عن طريق الكويت لا أدرى كيف؟، ومرة أخرى انطلاقا من ميادين هتفت بأن الموت أسمى أمانيها، وأن رحلتها إلى القدس أغلى أحلامها، وأن شهداءها ولو وصلوا الملايين لن يمنعوها عن مواصلة الطريق الذى لم تسر عليه حقا ولو خطوة واحدة، بينما لم يجن حصادنا المر من هتافها سوى إرهاب لم يقتل إلا أبناءنا ولم ينل سوى من دمائنا وعمراننا، بل من صورتنا كبشر، بينما العدو يجلس على الأريكة، فى عزلته العظيمة، يضحك ملء شدقيه، حيث الكل يقاتل لأجله، والحرب تدور حوله وليس عليه، وحيث الجميع يطلبون وده باطنا ولو ادعوا كراهيته ظاهرا، وحيث رائحة الدم تفوح من كل مكان عدا جزيرته وحده، التى تظل فى عيون كثيرين واحة للحرية والسلام، فاهنئى يا ابنة صهيون ولو إلى حين فقد أحبك الأعداء وباركك اللاعنون.