الأهرام
بهاء جاهين
الليالى العشر
انطفأ الفانوس منذ عشرات السنين. ضاعت شمعته الخضراء مع ذكريات الطفولة الطاعنة فى السن. لكنّ فانوساً صدئاً ما زال يضىء فى القلب. يشيخ الإنسان لكنه، مهما أوغل فى الشيخوخة، لا يفقد القدرة على الحلم. تظل الأمنيات نضرة فى وجدانه. وفى الليالى العشر الأخيرة من شهر رمضان، يحتفظ الواحد منا، فى ركن ما من قلبه، بذلك التطلع الطفلىّ لطاقة القدر.

يا سلام.. لو عشنا فى سلام! سلام مع النفس وسلام مع الناس. لوتوقف ذلك الشىء الذى ينهش القلب فى صمت ودأب وإصرار. لو تنفسنا بسهولة، واستيقظنا فى الصباح دون هَم على الصدر. لو بدأنا يومنا بأخبار عالم لا يفترس فيه الإنسان الإنسان. كل من عليها هانئ مطمئن!

وإن كان لابد من الألم على الأرض، فنسألك يا رب أن تلهمنا الحكمة، والبصيرة التى ترى وترضى، حتى يحل الوئام بين الإنسان وقلبه، إن كان الصراع فيما حوله، وبينه وبين ما حوله، محتماً مقدوراً: الإنسان والإنسان؛ الإنسان والفيروس؛ الإنسان وخلايا جسده التى تشيخ أو تمرض أو تُجَنّ؛ حاجات الإنسان أو أحلامه فى مواجهة حدود قدرته؛ الإنسان فى مواجهة ضميره الذى لا يرحم.. عمليات النهش المختلفة والمتعددة، المتزامنة أو المتراتبة، المتراكبة المتراكمة..

نسألك أن نحمدك من القلب فنَصْدُق، وينشرح الصدر بحمدك.. لأن الحمد الصادق بمثابة هدنة إن عز السلام على هذه الأرض؛ يا قوتة موقوتة إن تكررت صنعت فى النفس حباتِ مسبحةٍ كريمة الجوهر, تنفلت بدفئها ما بين الوخزة والأخرى كما تنفلت الحبة من بين السبابة والإبهام. وحشية العالم يتخللها السلام. النشاز تروضه الأنغام. اختناق الحقد تبسطه المودة.

الألم السهران يهجع وينام. حتى وإن كانت هجعةً مؤقتة. الحمد لله على كل حمدة. سبحانه فى كل حبة وسجدة. فى كل رفرفة يرفرفها الحمام.

يحط الحمام، ويسكن القلب قليلاً، ثم يتجاذبه الأسى والعشم فى الرحمن، خاصة والليالى العشر الأخيرة من رمضان على الأبواب، أو انفتحت عتباتها وفُرشت سجاداتها الزرقاء، بينما أنت تقرأ سطورى الآن يا عزيزى القارئ, فى صباح الجمعة 21 رمضان الموافقة 16 يونيو 2017، وقلب العالم مأزوم. ونحن فى قلب العالم؛ نحن أزمة قلب العالم. يا باسط، فُكّ انقباض وتشنج هذا القلب. وتُب على عنب الشام وبلح اليمن، وارحمنا من النيل للفرات، وأغثنا من المحيط للخليج.

كانت لنا جنات وحدائق وبساتين، ففرِّج عنها وعن الأنهار التى تجرى تحتها، وأعد لقلوب صبايانا وفتياننا نزق الحب وخفة الروح، ولقلوب أطفالنا البراءة والغفلة والبلهنية، ولا تدخلهم فى الشيخوخة، وباعد بيننا وبين مصير الهنود الحمر كما باعدت بين المشرق والمغرب، أنت مولانا فانصرنا على أنفسنا وكفى بأنفسنا أعداءً.

رَّبنا إن الليالى العشر الأخيرة من رمضان أحضان من المخمل الأسود لمن ثقل رأسه بحمل اليقظة، فاقبل سجودنا قبولاً حسناً, واجعل الجاذبية الأرضية تجذب رؤوسنا إلى الأعلى حيث أعتاب رحمتك..

مولاى إن الكأس تدور، والرأس يدور، فخفف عنا خُمار القدر المقدور، وتُب علينا من الدم المهدور. كنا أشقاء وخلَّان. بين وردٍ وريحان. وشقائق نعمان. فانفجر فى أرواحنا الوحش المسعور. وها نحن نصلى الشفع والوتر فى الليالى العشر، لكن لا يتوقف القتل. وقد مضى بدلاً من رمضان رمضانات وأعياد كثيرة، وكل مرة تضاف نقطة دم جديدة إلى الكعكة المغطاة بالسكر فى يد الطفل العربى- هذا إن وُجِدت كعكة، أو وُجدت يده, ولم تبترها، وتبتر وجوده كله، القنابل، أو البرد والجوع، أو الغرق فى بحر الخلاص المرتجى.

ورغم هذا يطرب شىء طفولى قديم فى نفوسنا لقدوم رمضان، ونتطلع للعيد حين تهل روائحه من بعيد فى الليالى العشر الأخيرة من رمضان، ويقترب ثم يقترب..

نسألك اللهم عيداً لا يعكر صفوه معكِّر، وأن نتبادل الهدايا فى الأعياد مع إخواننا، مسلمين ومسيحيين، ونطرق الأبواب حاملين كعكة العيد للجار القريب من الباب والقلب، فيُفتح الباب ببسمة الود الصافى.

اللهم أغث أوطاننا. اللهم أغث أوطاننا. وتُب علينا يا أرحم الراحمين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف