قطر حالة استثنائية فى المنظومة الإقليمية والدولية, ومثال فريد للازدواجية السياسية, والخلاف حول دورها وسياساتها التدخلية فى شئون الدول الأخرى سواء فى محيطها الخليجى أو على مستوى المنطقة ككل ليس جديدا, بل يرجع إلى ما يزيد على عقدين من الزمان، الجديد هنا هو قرار المواجهة الذى اتخذته القوى الكبرى فى الإقليم وفى مقدمتها السعودية ومصر والامارات والبحرين, فإجراءات المقاطعة الصارمة برا وجوا وبحرا ستُفضى إن آجلا أو عاجلا إلى عزلها تماما مالم تراجع مسارها وتُعدل من سياساتها.
استفادت قطر طويلا من المناخ الدولى والصراعات والحروب الإقليمية للعب على المتناقضات وممارسة نفوذ يتجاوز حجمها بكثير, خاصة مع امتلاكها فوائض مالية ضخمة وقنوات إعلامية تستغلها لنفس الهدف, وبالقطع كانت ثورات الربيع العربى فرصة أخرى لاتساع دورها وتشعبه إلى حد الطموح فى إعادة تشكيل أنظمة الحكم والنظام الإقليمى برمته.
فالمعروف أنها حليف طبيعى للسعودية بحكم عضويتها فى مجلس التعاون الخليجى, وهى جزء من التحالف الإسلامى الذى تقوده المملكة ضد انقلاب الحوثيين فى اليمن ولكنها فى الوقت نفسه تتعاون مع إيران التى تدعمهم, كذلك أصبحت من أكبر داعمى وممولى الأفراد والجماعات والتنظيمات المسلحة على الجانبين السنى والشيعى, أى الإخوان والسلفيين والتكفيريين من القاعدة إلى جبهة النصرة وما تفرع عنهما, مثلما تناصر حزب الله والمعارضة الشيعية فى الخليج, وبنفس المنطق تدعم حماس بشدة وتحتفظ فى المقابل بعلاقات جيدة مع إسرائيل, والأكثر من ذلك أن جميع من تناصرهم هم على عداء سافر مع الولايات المتحدة التى تمنحها حق إقامة أكبر قاعدة عسكرية فى الشرق الأوسط على أراضيها ومنها انطلقت عملياتها فى أفغانستان والعراق وتستخدمها الآن فى حربها على داعش, لذلك وصفتها مجلة «فورين بوليسى» أخيرا فى تقرير مطول نُشر أواخر الشهر الماضى بأنها «حليف ذو وجهين» يجيد مسك العصا من المنتصف.
ورغم ذلك فمن الصعب تصور أن هذه الحقيقة كانت غائبة عن صانع القرار الأمريكى أو أنها لم تُكتشف إلا أخيرا, إنما الأرجح أن التغاضى عنها كان مقصودا, فحتى اللحظة الأخيرة من حكم الإدارة الأمريكية السابقة, كان الانفتاح على القوى الإقليمية المتنافسة هو المنهج المعتمد, وتوقيع الاتفاق النووى مع طهران الخصم التقليدى لواشنطن لم يكن سوى الوجه الظاهر لصفقة سياسية أشمل تسمح لها بتقاسم النفوذ مع السعودية وتُوجد لها قدما فى كل الملفات المفتوحة من سوريا والعراق إلى اليمن فى محاولة لرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط, وهى نفس السياسة التى تبنتها على المستوى الداخلى لدول المنطقة, أى فتح قنوات الاتصال مع الجميع بمن فيهم الإخوان المسلمون الذين شكلوا فى مرحلة ما البديل الجاهز الوحيد لأنظمة الحكم القائمة, بل ولم تمانع فى وصولهم للسلطة فى أكثر من بلد عربى. ونفس الشىء قد يصدق على الجماعات المتطرفة التى سعت الولايات المتحدة لاختراق صفوفها بحثا عن معلومات استخباراتية تُسهل لها تعقبها وضرب رموزها.
بعبارة أخرى, إن سياسة قطر التى شكلت لغزا إقليميا محيرا, لا يمكن اختزالها فى طموح زائد لدولة صغيرة أو اعتبارها مجرد مهارة سياسية, وإنما ــ وهو الأقرب للمنطق ــ أنها كانت تُوظف لصالح استراتيجية دولية أكبر, أى أن دورها تابع وليس أصيلا, مهما كانت درجة استفادتها الذاتية منه, ولذلك عندما جاء دونالد ترامب بسياسة مغايرة تقوم فى الأساس على التصدى للنفوذ الإيرانى واعتباره أولوية قصوى على النقيض من سلفه باراك أوباما, من خلال تشكيل تحالف عربى إسلامى يعيد القيادة الإقليمية إلى السعودية, مثلما تجسد فى قمة الرياض, خرجت الانتقادات لقطر إلى العلن. لكن السؤال إلى أى مدى يمكن أن تذهب؟
هنا تُثار قضيتان أساسيتان, الأولى تتعلق بمستقبل القاعدة العسكرية التى تستضيفها الدوحة, والتى قال عنها ترامب فى نفس القمة إنها حاسمة لإستراتيجية بلاده فى المنطقة، إضافة إلى صفقة السلاح التى تصل لــ 12 مليار دولار. والأخرى, تتمثل فى الموقف الأمريكى من جماعة الإخوان, وهو موضوع اتهام رئيسى لقطر. والمعروف أن هذه القضية تحديدا طُرحت فور توليه السلطة ليس فقط على مستوى البيت الأبيض, ولكن أيضا من خلال مشروع قانون كان المفترض تقديمه إلى الكونجرس, لإدراجها على قائمة الإرهاب ثم لاشىء بعد ذلك.
فى هذا الإطار يمكن أيضا التطرق لمواقف الدول الأوروبية خاصة الكبيرة منها مثل-فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة, التى وإن انتقدت فى العموم سياسة تمويل الجماعات المسلحة, إلا أنها دعت إلى حل الأزمة دبلوماسيا والابتعاد عن التصعيد محذرة من «حرب محتملة», كما قال وزير الخارجية الألمانى، ومن هنا أيضا جاءت «الوساطة» التى سيقوم بها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون.
هذا الموقف الذى يبدو رماديا يخفى وراءه مصالح اقتصادية هائلة واستثمارات تقدر بمليارات الدولارات, وتكفى الإشارة إلى أن كبرى الشركات الألمانية والفرنسية تستحوذ وحدها على الجانب الأعظم من مشاريع البنية الأساسية الخاصة بالإعداد لمباريات كأس العالم 2022 المزمع إقامتها بقطر, فى حين تظل سياسة بريطانيا غامضة, وهو أمر مفهوم كونها هى ذاتها استضافت على مدى عقود طويلة شخصيات وقيادات منتمية لمختلف التيارات الإسلامية.
ومن الناحية الإقليمية, فليس من المنتظر أن تتخلى قطر بسهولة عن الارتباط بإيران حتى وإن خفضت من مظاهره العلنية نتيجة الحصار الأخير, فبخلاف الأسباب السياسية التى تجمعهما, هناك شراكة اقتصادية وتجارية حيث تملك طهران حصة فى واحد من أضخم حقول الغاز القطرية. ونفس الشىء قد ينطبق على تركيا, وهى نفسها من أكبر داعمى الإخوان, والتى وقعت معها اتفاقية لإقامة قاعدة عسكرية على أراضيها (2014) ووُضعت موضع التنفيذ فى الأيام القليلة الماضية.
يبقى القول إن قرار مواجهة من يمول الجماعات الإرهابية, هو خطوة مهمة فى الطريق الصحيح, ولكنها بحكم التعريف ليست سهلة, خاصة أنه سيكشف عن دول وأجهزة مخابرات أخرى تقوم بما تقوم به قطر.