الأهرام
محمد سلماوى
جريمة المتحف الزراعى...«على غرار أوروبا»!
ما مدى صحة هذه الأخبار المقلقة التى يتداولها سكان المنطقة المحيطة بالمتحف الزراعى المصرى بالدقى؟ هل صحيح أن وزارة الزراعة أعلنت عن مشروع ميزانيته 22 مليون جنيه لتحويل الأراضى الزراعية التى تقع داخل حرم المتحف الى موقف سيارات وكافتيريات وأماكن للترفيه ومحال تجارية؟ لو صحت هذه الأنباء فإننا نتحدث عن جريمة كبرى فى حق الطبيعة، وفى حق التاريخ الحضارى المصرى، وفى حق المال العام.

لقد حققت الدولة أخيرا إنجازا كبيرا باستعادة الآلاف من أراضى الدولة التى تم الاعتداء عليها من بعض المواطنين، رغم عدد من التجاوزات التى وقعت والتى سعدنا باعتراف الرئيس بها، مما يعنى أنه سيتم تداركها، ولكن ماذا عن الدولة حين تكون هى المعتدية على المال العام؟!

إن المتحف الزراعى المصرى هو أقدم متحف زراعى فى العالم، وفى العام المقبل تحل الذكرى الثمانون لإنشائه، ولا عجب فى هذا، فمصر هى الدولة التى اخترعت الزراعة وهى التى استأنست الأرض المحيطة بمجرى النيل، وأقامت أحد أقدم المجتمعات الزراعية فى تاريخ الإنسانية، وقد تنبهت مصر فى عصر الملكية الى تلك القيمة الفريدة لتاريخها الزراعى فشرعت فى إقامة هذا المتحف، وتبرعت الأميرة فاطمة ابنة الخديو اسماعيل بالسراى الخاص بها لهذا الغرض، وتم استقدام مدير المجمع الزراعى المجرى فى بو+دابست (وهو ليس متحفا) للإشراف على إقامة المتحف وفق أحدث الوسائل العالمية فى ذلك العصر، وكان هو ايڤون ناجى الذى أصبح بعد ذلك أول مدير للمتحف عند افتتاحه عام 1938، ويقع هذا المتحف الفريد وسط حدائق تبلغ مساحتها 30 فدانا، أى 126 ألف متر مربع، وكما يحلو فى عين مغتصبى أراضى الدولة أن يستولوا على المساحات التى تسمح لهم بالتكسب من ورائها بالبيع لمن يحيلوا الأراض الزراعية الخضراء الى أبنية أسمنتية قبيحة، فإن تلك المساحة الشاسعة التى هى ملك للشعب، أغرت الوزارة بالاعتداء عليها لبناء «الكافتيريات والأماكن الترفيهية...مع طرح مبادرة على رجال الأعمال بتحويل المساحات الفضاء الى مطاعم ومحال للتسوق على غرار ما يحدث فى أوروبا»، حسب ما صرح به أحد مسئولى الوزارة للصحف. لا يا سادة هذا ليس على غرار ما يحدث فى أوروبا، ولو أنكم عرفتم ما يحدث فى أوروبا لعرفتم كيف يكون الحفاظ على الطبيعة الخضراء من الاعتداء عليها بالأسمنت المسلح، وكيف يكون الحفاظ على التاريخ ممن يعملون على محوه وطمس معالمه، وكيف يكون الحفاظ على المال العام ممن يغتصبون متنفس السكان من الساحات الخضراء ليقيموا عليها مشروعات تجاريه تدر عليهم الأرباح. إن ما نطلق عليه اسم المتحف الزراعى هو فى الحقيقة سبعة متاحف تتوزع على عدة أبنية، فسراى الأميرة فاطمة اسماعيل وهى المبنى الرئيسي، قد تحولت الى متحف للثروة الحيوانية المصرية على مر التاريخ، وهى تزخر بعدد هائل من الحيوانات المحنطة التى انقرض بعضها على مر السنين، ثم هناك متحف الثروة النباتية، ومتحف آخر مخصص للقطن الذى اشتهرت به مصر والذى يبدو أنه فى طريقه الى الانقراض هو الآخر، بل إن هناك ضمن هذا المجمع الفريد من المتاحف متحفا مخصصا للأعمال الفنية التى صورت البيئة الريفية، وبعضها لبعض أكبر الفنانين العالميين.

هل يصح ان تكون الأراضى المحيطة بهذه المجموعة من المتاحف أماكن ترفيهية ومحال تجارية للتسوق التجاري؟! إن فى ذلك اعتداء صارخا من الدولة على المال العام وعلى طبيعة المكان وعلى تاريخ البلاد، فبأى دولة أخرى نستنجد كى نوقف ذلك الاعتداء الذى تقوم به الدولة ذاتها؟

لقد كان لدينا فى الماضى حديقة فريدة هى حديقة الأزبكية، وكانت بها الخضرة الغناء والبحيرات الخلابة، لكنها تحولت على مدى السنوات الى غابة أسمنتية قبيحة، وكان لدينا حديقة الأورمان التى كانت تضم نباتات نادرة وأشجار طاعنة فى القدم، وقد أحتلتها بعد ثورة 30 يونيو جحافل من لايقدرون قيمة ما فيها فاقتلعوا ما اقتلعوه، وأشعلوا بعض أفرع الأشجار النادرة نيرانا لإعداد الشاى، لكن هؤلاء كانوا يؤمنون بمقولة «طظ فى مصر»، فما هو عذر وزارة الزراعة الآن؟

لقد كنت أتصور أن تكون مهمة الوزارة هى إحياء الخضرة فى تلك الحدائق بعد أن أصابها الإهمال على مدى السنوات، إن المتحف الزراعى يحوى على سبيل المثال نماذج لبعض النباتات المصرية القديمة التى انقرضت، ومنها نبات البرساء، أما زهرة اللوتس الرمز المميز لمصر القديمة فهى الأخرى فى طريقها الى الانقراض، فهل فكرت وزارة الزراعة أن تقيم فى هذه الحدائق مزارع خاصة تحيى بعض الأنواع النباتية التى انقرضت عن طريق التهجين باستخدام الحمض النووى المستخلص من النماذج المتحفية المحفوظة بالمتحف «على غرار ما يحدث فى أوروبا»؟ وهكذا تتحول الحديقة إلى واحة جميلة لتلك النباتات والأزهار المصرية الأصيلة، وربما أيضا بعض الطيور أو الحيوانات المصرية من الأنواع التى تتعرض الآن للانقراض فى صحرائنا، وتلك مهمة تتفق مع الوظيفة الحضارية للمتحف بدلا من مواقف السيارات والكافتيريات وأماكن الترفيه ومحال التسوق، ثم ما الضرر فى أن تتحول هذه المنطقة الى مجرد حديقة خضراء فى عاصمتنا التى تعتبر فريدة بين عواصم العالم فى أنها بلا حدائق ومنتزهات عامة، أى أنها بلا رئة خضراء تجددالهواء الملوث الذى يستنشقه أبناؤها؟

إن هذا المشروع البائس امتداد أصيل لمشروعات نشر القبح فى ربوع البلاد التى انتشرت طوال العقود الماضية، وأنا أعلم أنه ليس من بنات أفكار الوزير الحالي، فقد شرعت فى تنفيذه الوزارة السابقة ثم توقفت عنه بعد مقاومة سكان المنطقة له، لكن ما أن تغير الوزير حتى عاد من يبدو ان لهم مصلحة فى إتمامه الى إقناع الوزير الجديد بجدواه، وبما سيدره على الوزارة من دخل، فمن قال إن التوظيف السليم للحديقة لن يجلب للوزارة الدخل المطلوب؟.

إن أمامنا تجربة من القطاع الخاص قام بهاالمرحوم المهندس حسن رجب حين فعل العكس من ذلك تماما. فأقام نموذجا لقرية فرعونية قديمة على ضفاف النيل تحولت بسرعة الى مزار سياحى يأتى بدخل قد يفوق ما يأتى به موقف السيارات الأسفلتى القبيح، كما أصبحت مزارا تعليميا وتثقيفيا لطلبة المدارس، ألم يكن أجدى بالوزارة المسئولة عن الزراعة فى مصر أن تكون هى السباقة الى مثل هذه المشروعات التى تحيى تاريخ البلاد الحضاري....«على غرار ما يحدث فى اوروبا»؟!!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف