تواترت صورة الزعيم جمال عبدالناصر فى الفنون المختلفة، برزت فى الرواية المصرية على نحو مباشر تارة، وعلى نحو غير مباشر تارة أخرى، فإيحاءات القوة والصلابة والنبل التى تحيل إليها شخصية عبدالناصر، بدت صورة مثالية لدى بعض كتاب جيل الستينيات، على نحو ما نرى مثلا لدى بهاء طاهر، وجميل عطية إبراهيم، وجمال الغيطاني، ويوسف القعيد، وغيرهم، أو الحلم الذى بدده التحول السبعينى المخيف على نحو ما نرى فى بعض نصوص جيل السبعينيات، مثل: «نوبة رجوع» لمحمود الورداني، وفتحى إمبابى فى مجموعته القصصية «السبعينيون»، ويوسف أبورية فى «الجزيرة البيضاء»، ورضا البهات فى «بشاير اليوسفي»، فهذه النصوص على تنوعها الخلاق، وسماتها النوعية، يقدم كل نص منها بطريقته جدارية للواقع المصرى فى تحولاته السياسية/ الثقافية المختلفة فى فترة السبعينيات عميقة التأثير فى الواقع المصرى المعاصر، حيث بدا كل شيء على المحك، وتقدمت قيم استهلاكية جديدة، وتراجعت أخرى نبيلة.
ويأتى حضور عبدالناصر بوصفه إطارا للحلم المجهض، وربما لم تخل النصوص الشعرية ذاتها من حضور واعد لناصر بدا ماثلا فى قصائد بارزة لشعراء كبار مثل صلاح عبدالصبور( الحلم والأغنية)، ومحمود درويش( بطل الظل الأخضر)، والجواهري( فى ذكراك الأولى يا ناصر)، وأحمد عبدالمعطى حجازي( مرثية العمر الجميل)، ومحمد الفيتوري( القادم عند الفجر)، وغيرهم.
وتبدو فى القصائد جميعها على تنوعها التقنى والجمالي، صورة البطل الأسطورى المتسم بكاريزما تخصه، فى إطار سردية كبرى تحيل الأشخاص إلى علامات، وأيقونات دائمة الوهج والقدرة والتأثير، وقد كان ناصر رمزا فعليا لجملة من المعانى السياسية والإنسانية فى حياة ناسه وأمته، حيث مثلت قيم الاستقلال الوطنى والتحرر من التبعية مفردات جوهرية فى الخطاب والتصور الناصرى عن العالم، يقول الشاعر العربى الكبير محمود درويش عن عبدالناصر: «نعيش معك/ نسير معك/ نجوع معك/ وحين تموت!/ نحاول ألاّ نموت معك!/ ولكن،/ لماذا تموت بعيدا عن الماء/ والنيل ملء يديكْ؟/ لماذا تموت بعيدا عن البرق/ والبرق فى شفتيك؟/ وأنت وعدت القبائلْ /برحلة صيف من الجاهليهْ/ وأنت وعدت السلاسل/ بنار الزنود القويهْ/ وأنت وعدت المقاتل/ بمعركة.. ترجع القادسيهْ/ نرى صوتك الآن ملء الحناجرْ/ زوابع/ تلو/ زوابع.../ نرى صدرك الآن متراس ثائر/ ولافتة للشوارع».
وربما أعاد مسلسل الجماعة فى جزئه الثانى الذى يعرض الآن إلى الواجهة من جديد حالة الجدل التى لا تنتهى بإزاء إحدى أهم الشخصيات الوطنية فى عصرنا الحديث، وأحد صناع التاريخ المعاصر الحقيقيين، وقد مثلت علاقة جمال عبدالناصر بالإخوان مركزا لهذا الجدل، خاصة وأن عبدالناصر بدا مؤديا يمين الولاء والسمع والطاعة لمرشدها، وربما لعبت الدراما هنا الدور الأبرز فى منح المتلقين هذه الصورة المغايرة عن الزعيم، فالوجدان الجمعى المصرى والعربى يتعامل مع عبدالناصر بوصفه بطلا للحلم القومي، الذى كان يؤذن بمشروع عربى اشتراكى الملامح، ومن ثم وجدت الجماهير صورة بطلها على الشاشة فى واد، وصورته الذهنية لديها فى واد آخر، لقد صنعت الدراما هنا كسرا لأفق التوقع لدى المتلقي، وأسهمت مثل بقية مشاهد المسلسل التى عرضت فى كشف المسكوت عنه فى فترة من تاريخنا المصرى المعاصر، غير أنها لم تستطع تلمس المناخ الفكرى الذى صاحب تلك الفترة، التى شهدت أيضا تحولات فكرية لدى عبدالناصر نفسه، وخروجه من فخ الاستقطاب الدينى المعادى للهوية الوطنية، إلى براح فكرة الوطن ذاته، حيث الإيمان بالتعدد جوهر الدولة الحديثة، وليس الجماعات الدينية المغلقة.
وفى كل يبدو الفهم المتنوع لدراما ( الجماعة) التى صنعها وحيد حامد، علامة على عمل فنى قادر على إثارة الأسئلة، وقابل للتأويلات المختلفة، ويظل موقفه المعادى للهويات الطائفية، وتكريس قيم التخلف والرجعية، تعبيرا عن انحياز طليعى فى رؤية الفن والتعامل معه، وأعنى بالانحياز الطليعى هنا ما يسمى بالموقف من العالم، فالدراما هنا تسائل خطاب العنف، والتطرف، وتجيد وصل المساحات ما بين الفكرى والفني، وتلعب باقتدار على مساحات الجدل بين الماضى والحاضر، حيث تبدو الدراما وهى تقدم زمنا مختلفا، وعالما ماضيا، وكأنها تحيل إلى الحاضر، وتسقط على اللحظة الراهنة، فالتاريخ الدموى للجماعة وحملها للسلاح منذ البواكير الأولى لنشأتها، والاغتيالات التى صنعتها، والتفجيرات التى أحدثتها تبدو دليلا دامغا على سطوة العنف الذى مارسته الجماعة ضد الوطن، والتى تطرح نفسها تحت غطاء من فكرة الخلافة المتوهمة بوصفها بديلا عن الوطن ذاته، ومن ثم تبدو الجماعة فى مواجهة الوطن، لا تحيا إلا على أنقاضه!، وهذا التصور الكارثى بدت الدراما هنا قابضة عليه وبقوة، بوصفه تعبيرا عن تلك الثنائيات المتعارضة التى تشكل جوهر المنهج البنيوى فى النقد والفلسفة.
وبعد.. تقدم دراما الجماعة صورة أقل شغفا بناصر، وتضعه موضع المساءلة النقدية المستمرة، لكنها وفى الوقت نفسه تقدم أسئلة الفن والدراما والتاريخ معا حول تلك الجماعة الأفعى التى تمترست فى مؤسسات عديدة، واخترقت سياقات اجتماعية مختلفة، وشكلت تصورات فكرية زائفة، جعلت من الدين وسيلة لبلوغ مطامح دنيوية، وآلية للوصول إلى سدة الحكم عبر خطابات تزيف الوعي، وتسجنه، وتجعله دائما أسيرا للنمط الخرافى فى التفكير.