د. نصر محمد عارف
عندما يصبح رئيس الدولة ناشطا سياسيا
استقرت الأعراف الدولية على أن من يتولى منصباً سياسياً يعبر عن سيادة الدولة؛ سواء أكان رئيساً أو وزيراً أو سفيراً؛ يجب أن يكون سلوكه منضبطاً بالقانون نصاً وروحاً، وأن تكون كل تصرفاته وأفعاله وأقواله وسلوكياته تعبر عن منصبه وليس عن شخصه، لأنه بمجرد توليه ذلك المنصب السياسى ترك ذاته وشخصه فى بيته، وأصبح ناطقاً باسم الدولة، أو أحد مؤسسساتها، أو فاعلاً باسمها، أو أحد مؤسساتها، لذلك تطبق العديد من الدول معايير على من يتولى المنصب السياسى لا تنطبق على أقرانه من المواطنين.
وبناء على هذه الحقيقة يكون هؤلاء مسئولين سياسيين، أى أنهم مساءلون على كل تصرفاتهم، ولا يحق لهم القيام بتصرف، أو التفوه بلفظ يعبر عن ذواتهم أو شخصياتهم، فقد تنازلوا عنها فور تصدرهم للمشهد السياسى بمحض اختيارهم.
المسئول السياسى تحكم كل تصرفاته القوانين والنظم والأعراف الدولية، ويكون مسئولاً ومحاسباً عن كل أفعاله وأقواله، وتمتد هذه المحاسبة والمسئولية إلى دولته وحكومته، وتتحمل هذه الدولة والحكومة الآثار والنتائج والتبعات التى تنجم عن سلوك من يشغلون مناصبها السياسية وأفعالهم وأقوالهم، لذلك لابد أن تكون تصرفات المسئول السياسى منضبطة غاية الانضباط، وأن تكون ألفاظه فى غاية الدقة، لأنه لا مجال هنا للتبرير أو التفسير.
أما من يريد أن يحافظ على حريته واستقلاليته وشخصيته، وفى نفس الوقت يمارس العمل السياسي، فهذا تعارفت الأمم على تسميته بالناشط السياسي، أو الناشط الحقوقي.. الخ، لأنه شخص تحركه أفكار عامة، وقيم دولية أو محلية، دينية أو علمانية، لا تحد أفكاره وسلوكياته حدود دول، أو قيود نظم، ولا تحصره أو تحاصره مجالات أو تخصصات، فتارة يكون مدافعاً عن حقوق الإنسان فى بلاد واق الواق، وأخرى ينتفض دفاعاً عن حقوق كلاب الشوارع فى الحياة، فالناشط السياسى هو رئيس جمهورية نفسه؛ طالما لم يخالف القوانين العامة لوطنه، أو للدولة التى يقيم فيها؛ فيدعو إلى جريمة أو يقوم بها.
من هنا لا يجوز عقلاً ولا قانوناً أن يجمع شخص بين الاثنين، أى أن يكون مسئولاً سياسياً وفى نفس الوقت ناشطاً سياسياً، هذا من رابع المستحيلات، لأنه يؤدى إلى انهيار النظام والقانون فى الدول الوطنية، ويقضى على النظام والقانون والعرف الدولي، ويحول العالم إلى فوضى عارمة، تستباح فيها سيادة الدول، ويتم العبث بمجتمعاتها، وترتبك الحكومات أمام تدخلات السياسيين من الدول القوية، أو الدول المشاغبة، ويفقد كل العالم ضوابط السلوك الدولي، ويتحول إلى سيرك كبير من البهلوانات والقرود.
ظل هذا الحال محترما عرفاً وقانوناً فى الغالب الأعم من السلوكيات الدولية، وإن كانت دول الشمال الاستعمارية السابقة ومعها امتداداتها فى أمريكا وأستراليا ابتكرت بعض المخارج القانونية للتدخل فى شئون دول الجنوب تحت ذرائع حقوق الإنسان والديمقراطية، وحماية الأقليات، وجميعها موضوعات تخرج عن متطلبات مفهوم السيادة، وتدخل فى إطار القيم الحقوق والأفكار الإنسانية العامة التى لا يحق للمسئول السياسى فى أى دولة أن يقوم بها، ولكن درجت تقاليد الدول الاستعمارية على ذلك منذ أن تحولت الدولة العثمانية إلى رجل أوروبا المريض، وأصبح التدخل فى شئونها مبررا بحماية الأقليات.
مع قيام الثورات العربية في2011 سقطت هذه القيم فى تونس مع المنصف المرزوقى الذى انتقل من ناشط حقوقى إلى رئيس دولة بدون سابق إعداد أو تدريب، فحول موقع الرئاسة التونسية إلى منصة للتدخل فى شئون الدول الأخرى، لذلك تم تنظيف موقع الرئاسة منه سريعا، ورجع إلى سيرته الأولى، ثم توسع الأمر مع محمد مرسى فى مصر، الذى بدأ عهده بحركات بهلوانية فى ميدان التحرير، حيث حلف اليمين الدستورية فى الميدان، وهو يستعرض بطولاته ويرقص على خشبة المسرح، وبذلك بدأ عهده ناشطاً سياسياً، ولم يكن رئيساً فى أى لحظة من السنة البائسة التى عاشتها معه مصر.
وبعد سقوط حكم التنظيم الفاشل فى مصر وليبيا وتونس، ودخول الحالة السورية فى فوضى عارمة، أدرك أردوغان أن مشروع العثمانية الجديدة الذى كان مقدراً له أن ينطلق2025 فشل ولن يرى النور، وأن القصر الضخم الذى بناه ليكون مقراً للسلطان أردوغان تحول إلى بيت أشباح يجمع كل متناقضات التاريخ. هنا تحول الرئيس التركى إلى ناشط سياسي، يرفع يده مبتورة الأصبع طوال الوقت، ويتفوه بألفاظ سوقية لا تليق ضد مصر ورئيس مصر، ويتدخل فى سوريا من خلال عصابات إرهابية متوحشة، تمر بمطارات دولته، وتتغذى من بضائعها، وتذبح الأبرياء من المسيحيين والأزيديين بأسلحتها، تحت مظلة شعارات سياسية يطلقها أردوغان ليلهب بها حماس الشباب من المحبطين، والمحاصرين والفاقدين للأمل فى العالم العربى والإسلامي.
تحول أردوغان إلى ناشط سياسي، ويطلب من العالم أن يعامله كقائد سياسي، فقد السيطرة على لسانه فصار يسب جميع الدول والشعوب، فهولندا فاشية، وألمانيا نازية، وكل أوروبا عنصرية، كما فقد حرسه الخاص أعصابهم وتصرفوا كعصابات المافيا فى شوارع نيويورك لتهشيم وجوه أتراك مسالمين جاءوا للتعبير عن رأيهم فى السلطان الفاشل، لأول مرة فى تاريخ الدبلوماسية تصدر محكمة أمريكية أمر ضبط وإحضار لعدد 12 من حرس أردوغان.ولحقت بأردوغان إمارة قطر، فتحولت كلها إلى نشطاء سياسيين يتدخلون فى شئون جميع دول الجوار القريب والبعيد، ويشعلون المظاهرات ويستمتعون بالحرائق فى كل الدول العربية. هنا فقد أردوغان وصبيانه فى قطر الصفة التى تمنحها المناصب السياسية، وتحولوا إلى نشطاء فى الشوارع العربية، ويجب أن يتم التعامل معهم بما اختاروه لأنفسهم.