مازلنا فى حضرة الكاتب الكبير عباس حافظ الذى يتحدث عن زعيم الفقراء مصطفى النحاس، فيقول: «لقد كان موقف مصطفى النحاس حين بُويع بخلافة سعد خطيراً، مرهوباً! أمامه مثال سعد لايزال فى الأذهان مرتسماً، وحياله الخصم الطبيعى ـ وهو الإنجليز ـ لاتزال حقيقة سياساتهم بالنسبة للمفاوضات الجارية فى لندن غير ظاهرة ولا واضحة، وقبالته خصوم الدستور يتربصون الدوائر به، ومنفذو التجارب الاستعمارية يترقبون السوانح للغلبة عليه ـ فكان من ثم طبيعياً أن يلقى مصطفى النحاس بنظرة أمامه وفيما حوله، ليتأمل ما هو مُقْدِم على اقتحامه، ويستشرف الساحة المترامية على مدى نظره، فيحس عظم التبعة التى ألقيت عليه، وجسامة المسئوليات التى وسدت فيه، ورهبة الموضع الذى تبوأه.
فلا عجب إذا هو صارح يومئد الناس بما فى نفسه من ذلك كله، لأنه لم يكن بالرجل المزدهى صاحب الخيلاء، ليس له من ذلك غير الفرح به والتهافت عليه، ولكنه كان من بداية حياته العملية رجلاً متزناً أريباً قوى الفطنة، مواجهاً الحقائق، ولا يمس عظمته مَس غرور، ولا يخدعه شىء من الخارج عما فى دخيلة ذاته، وإنما يأبى إلا الصراحة والقول الحق والرأى الجهير.
ولا عجب إذا هو فى يوم مَقْدمه من سفره قد ذهب رأساً ليزور سعداً فى قبره، لتكون التحية من وراء الصفائح والجنادل، وبينهما برزخ لا يلتقيان، ولكن روحيهما، على بُعد النوى وطول الشقة، تتجاوبان. وفى وسط سكون رهيب وموقف حزن عميق، والأعين بالدموع سحاحة، والنفو س من جلل المشهد فى خشوع، وقد خيَّم جلال الموت فوق جلال العظمة، وتماثل صمت الحياة بصمتة الأبد ـ وقف مصطفى بين نوح يغالبه، وبكاء يتغلب عليه، واصفاً نكبة مصر وأساها، مشفقاً من التبعة ووطأتها، قائلاً بين إجهاش ونحيب!
«كان سعد يحمل العبء عنا جميعاً، وقد ألقاه الآن علينا جميعاً، إن سعداً يريد منا العمل، إنه يريد من هذه الملايين أن يعلموا، فلنكن جميعاً ملتفين حول روحه، إن روحك يا سعد أمامنا... أنت الإمامُ د ائماً.
«وآه يا سعد!... لقد استرحت يا سعد وتركتنا نتعب، تركت الحمل لأبنائك كلهم، كنت زاهداً فى الدنيا، ها أنت الآن فى الزهد الأخير، لم تتم بعد مهمتك، ولكن روحك ستتمها معنا. إننا جميعاً على عهدك حتى الممات. وإذا متنا فإن ذرارينا سيقتفون الأثر، سنعمل حتى نصل الى ما كنت تصبو إليه لتستريح، وقد كنت تعمل ونحن مرتاحون، فإن نلنا المبتغى استرحنا واسترحت، وإن لم ننله واسترحنا، جاهد أبناؤنا من بعدنا.
«... سنكون جميعاً كتلة واحدة، ويدا واحدة، لنعمل مجتمعين، عمل سعد منفرداً، وسنلتف حول روح سعد، ليستريح فى مرقده، وسنجتمع كلنا، لا يشذ منا أحد، نجتمع حول مبادئك يا سعد ونسير على طريقك القويم، أما سحر بيانك، وقوة حجتك التى كانت تبهر السامعين، فعزاء لنا فيها جميعاً، وصبراً جميلاً على فقدها، إن قلوبنا قوية، ومتجهة الى مصر التى كنت تحبها وتهش لذكر استقلالها.
«وللحديث بقية»