الأهرام
صلاح سالم
قداسة الأوطان
تبجل المجتمعات الحديثة أوطانها مثلما تقدس آلهتها، خاصة فى اللحظات الخطرة من أعمارها، والتى تثير مشاعر الخوف عليها، عند الحروب والثورات والكوارث، على نحو تبدو معه مقولة الجاهلى عبد المطلب بن عبد مناف، جد النبى الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) فى مواجهة جيش أبرهة الحبشى نبوءة حداثية بامتياز، فقد بادر الرجل إلى حماية داره وإبله التى هو زربهاس دون اكتراث بالكعبة التى لها رب سواه، أولى منه وأقدر على حمايتها، وهو ما كان، حيث حمى الله الكعبة ونجاها من شر الغزاة.

تضع الأوطان دساتيرها بتوافق جموع مواطنيها، واستلهاما لمقومات روحها، ليصبح دستور الوطن بمثابة كتابه المقدس، إنجيله أو قرآنه، يستلهمه فى صنع قوانينه، ويحتكم إليه لحل خلافاته، والويل لكل من أهدره، فالخروج عليه هتك لروح الجماعة وعدوان على ضميرها، هرطقة سياسية تشبه الهرطقة الدينية، الأولى إلحاد بالوطن والأخرى إلحاد بالله، وكلتاهما ترتب أشكالا مختلفة من الحرمان، روحى أو جسدى، قدسى أو دنيوى. كما تخط الأوطان حدودها لتضع فاصلا بينها وبين جيرانها، أصدقاء كانوا أم أعداء، فالحدود علامات كأبواب البيوت، الحدود تفتح على التراب المقدس لدى جموع الناس، والأبواب تفتح على الحرمات الخاصة بأهل البيت، ولهذا صارت حدود الأوطان مثل جلد الإنسان أو جلدة الكتاب المقدس، إنجيلا أو قرآنا، فجميعها يفتح على باطن الإنسان وعوالم الإيمان، وصار التفريط فيها عارا لا تبرره الحاجة ولا يمحوه الزمان.

تحتاج الأوطان لمن يؤمنون بها وليس فقط من يعيشون فيها، ولذا صارت أعلام الدول مثل مآذن حديثة، تشبه وتوازى وأحيانا تتفوق على مآذن المعابد والكنائس والمساجد، ترتفع فوق كل الشرفات وعلى كل المؤسسات طوال الأيام، يتم التلويح بها فى الأعياد الوطنية وفى ذكرى الانتصارات العسكرية، وأحيانا الرياضية، مثلما تُنكس فى أيام الهزيمة والانكسار تعبيرا عن الحزن والحداد. كما تصنع لنفسها أناشيد تتغنى بها، وتضع لها موسيقى تشبه الترانيم الكنسية، والتراتيل القرآنية، كى تشنف الآذان وتثير الخشوع فى جموع المواطنين، وتصنع منهم أمة مؤمنين، تهتز أبدانهم وقد تطفر دموعهم بعزف السلام الوطنى، مثلما تطفر بسماع الآيات المقدسة.

تبجل الشعوب مفكريها الكبار الذين يرسمون لهم معالم شخصية أوطانهم، ويصوغون السرديات الطويلة عن تاريخها، كما تخلد فنانيها المبدعين الذين ينشدون عنها ملاحم تحكى أمجادها القديمة، وتتغنى بحضاراتها العتيقة، لتصبح الأوطان أساطير تحمل أبعادا خيالية وعاطفية، بقدر ما تنطوى على حقائق عقلية وتاريخية، ينصاع الجميع لها، احتراما للدماء المراقة على مذبحها، والتضحيات المبذولة لحفظ بقائها وضمان استمراريتها، من أقدم العصور إلى أحدث الأزمنة، فيصير الأبطال القدماء جدا، كالمحدثين جدا، مثل حبات لؤلؤ ينتظمها عقد واحد، يزين رقاب من ينتمون إليها ويثير الفخر لدى شبابها، فأولئك الرجال الكبار هم من يحملون البوصلة، ويمنحون المعنى، ويؤكدون الهوية فى زمن التيه أو لحظات الخطر. وحتى الأبطال الذين لا تُعرف أسماؤهم، صار قبر الجندى المجهول معلما عليهم، يحج إليه الناس فى المناسبات المختلفة، امتنانا لهم وتقديرا لتضحياتهم.

ينطوى مفهوم السيادة الوطنية على قيمة رمزية ومعنوية، تطرح نفسها فى طقوس جمعية وسلوكيات فردية على نحو يشبه العبادات الدينية، فسيادة الدولة وما تعنيه من كلية الأرض وعلو الإرادة تكاد تشبه مفهوم الأولوهية، بكل ما يحمله من معانى القوة والقدرة والشمول. بالطبع يبقى الله هو المطلق الذى يقاس إليه ولا يقاس إلى سواه، ولكن يبقى الوطن حاملا لقبس من تلك المطلقات، وتجسيدا لتلك المثالات العليا التى يعنيها الله، فالأوطان نقطة يجرى عندها أنسنة الإلهي، وتقديس للدنيوى، ولو عبر التلميح لا التصريح، والوطنية اديانة مدنيةب تعمل مثل الصمغ اللاصق الذى تترابط به الجموع، ويتماسك بفضله الكيان الجامع، وتستفز له النخوة، لتصبح التضحية فى سبيله أمرا طبيعيا وممكنا، فالشهداء فى سبيل الوطن كالشهداء فى سبيل الله، بل كل شهيد للوطن هو قطعا شهيد فى سبيل الله، فالوطن لا يكون وطنا إلا إذا صار بوتقة لمعنى يتجاوز الأفراد، مثلما يسمو الله على الوجود، فالله خالق الكون والإنسان، والوطن رب أبنائه فى كل زمان ومكان.

تعبر الطقوس الثورية أفضل تعبير عن ذلك الرابط الخفى بين الشعور الوطنى كـ (دين مدنى) وبين الدين كوطن روحى، فالحماس الثورى هو مشاعر دينية فى الصميم، لكنها أخذت طابعا دنيويا، إذ بدلا من انتظار المؤمنين الأبرار االخجولب للحياة الفاضلة فى الملكوت السماوى المؤجل، يسعى الثوار الأحرار إلى تجسيد تلك الحياة الفاضلة الآن، وعلى هذه الأرض. كما يستعيرون رغبتهم فى التضحية على مذبح الأوطان ضد الأعداء من روحانية الجهاد ضد الكفار. وأخيرا يبنون تضامنهم المشترك بحسب قدرتهم على تمثل ما فى الدين من قدرة على تكتيل إرادة جماعة المؤمنين، فمشاعر الأخوة فى الله تشبه مشاعر الثائرين للوطن، يتجمع هؤلاء تحت راية الله، ويتضامن أولئك تحت راية الوطن. الوطنيون لإعادة بناء بلدهم بالصورة التى يحلمون بها بعد أن أرهقه المتسلطون عليه، والمؤمنون للدفاع عن دينهم الذى يعاديه الملحدون، أو يفسده المنافقون.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف