على هاشم
دراما تشويه مصر.. أين دور الدولة؟!
نودع شهر الصيام وفي الحلق غصة مما حوته مسلسلات رمضان من إسفاف يخدش روح الصيام . وكلمات فيها من الفحش والسباب أكثر مما فيها من الحض علي مكارم الأخلاق والقيم النبيلة .. 40 مسلسلاً ابتلعت ملياري جنيه دون أن تعود علي الوطن بنفع يذكر. أو تقدم مضامين هادفة تضخ الحيوية والهمة في أوصال الكسالي. وتشد من أزر المجتهدين بل بالعكس وجدناها بلا قيمة ولا غاية إلا تسفيه العقل ومجافاة الحق وتغيب الوعي بدرجة أثارت حنق المجلس الأعلي للإعلام الذي كال لها النقد .. نودع شعر الصيام وفي الذهن أسئلة لا حدود لها : ماذا أرادت دراما رمضان بعقول المصريين .. لماذا يصر صانعوها علي السقوط بنا في بئر التخلف والعنف والفوضي والاستهلاك النهم واهتراء القيم وتمزيق النسيج الاجتماعي وإزهاق روح الإبداع والولاء والانتماء للوطن بتركيزها علي المظاهر والاستهلاك وترف العيش الذي ترفل فيه فئة قليلة بينما يعاني السواد الأعظم من الفقر والغلاء.. هل أرادت إثارة الحقد الاجتماعي علي الأغنياء أم التحريض علي الجريمة والعنف والقتل.. هل يليق بنا أن ننسب مسلسلات حافلة بمشاهد العري والسباب لشهر رمضان الذي جعله الله مناسبة للطاعات والتواصل والتكافل الاجتماعي والتراحم .. كما عرفته الأمة سجلاً مشرفا للانتصارات الكبري .. والأهم : ماذا يتذكر المشاهد من أحداث هذه المسلسلات .. هل تركت بصمة في عقله ووجدانه مثلما فعل السيناريست العظيم الراحل أسامة أنور عكاشة الذي قدم الروائع الخالدة في ذاكرة الأجيال وفي ضمير الوطن بما حوته أعماله من رؤية واعية وحبكة درامية شائقة للتاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لمصر في العصر الحديث .
اللافت للنظر أيضًا هذا الكم الهائل من إعلانات التبرعات للمستشفيات . وهي ظاهرة رغم نبلها تستحق الدراسة للإجابة عن سؤال مهم : هل ثمة رقابة جادة علي مسار وأوجه إنفاق تلك الأموال أوالتبرعات حتي لا تضل طريقها أو تنحرف عن غايتها. أو تذهب إلي جيوب حفنة من المنتفعين الذين لا يخلو منهم مكان علي أرض المحروسة .. ولماذا هذا التدافع علي الإعلان عنها .. حتي بدت وكأنها غاية في ذاتها دون أن نعرف مصير هذه التبرعات ..وهل تجري الاستفادة بها علي الوجه الأمثل ..؟!
مسلسلات رمضان كثير عددها وضررها.. قليل نفعها .. فهي تركز علي السلبيات وربما تختلق بعضها وتنفخ النار فيها .. فهل المجتمع المصري علي هذه الدرجة من السوء .. وكيف سمحت ضمائر صناعها بأن يصدَّروا صورة بكل هذا القبح عن بلدهم للعالم الخارجي الذي رفض شراء هذه المسلسلات حتي لا تنتقل عدوي القبح الاجتماعي إلي مواطنيه .. أرأيتم ماذا فعل بنا صناع المسلسلات.. وكيف جعلوا مصر بعد ريادتها في المجالات كافة علي هذه الدرجة من السوء.. أليس ذلك عبثاً بأمنها القومي وتشويهاً لصورتها في عيون بنيها. وفي عيون الخارج ما يفقدها الاعتبار والقيمة؟!
لماذا غابت الدراما التاريخية الصادقة عن أعمال رمضان . هل صارت الدراما بيزنس هادفًا للربح ولاشيء سواه علي حساب المضامين والرسالة .. أين تلك المسلسلات من تجديد الفكر الديني لإنقاذنا من براثن التطرف والإرهاب الذي يبدأ فكرة ضالة سرعان ما تتحول إلي أحزمة ناسفة ومتفجرات وأسلحة تحصد رقاب المصريين دون عقل ولا رشد.. لماذا لم تبتعث الدراما نماذج تاريخية مضيئة تنعش ذاكرة الأمة بالأمجاد والعزة القومية وتنفض التراب عن ذاكرة طمسها الفساد والإرهاب والتواكل والسلبية والأنامالية والاستهلاك النهم والإسراف والتبذير والتفاخر بالمظاهر علي حساب قيم التواضع والاعتدال والوسطية والعمل.. ما كل هذا الكم الهائل من المسلسلات.. كيف يجد المشاهد وقتًا لمتابعته في وقت واحد وهل يمكن أن نحسن الظن في صناع هذا القبح وما هو الهدم إذا لم يكن ما يفعلونه نسفًا لقيم المجتمع ومقومات بقائه ونهوضه كيف يمكن أن نقبل بمشاهد الخيانة والطلاق ونهش الأعراض والإدمان والعنف وتزويج لغة هابطة مفعمة بالشتائم .
المحزن حقًا أننا لا نجد مسلسلاً واحد يحكي قصة الإرهاب ويتتبع جذوره وروافده ليكشف أسبابه الحقيقية. ويضع روشتة فكرية وعلمية لعلاجه واستئصاله من جذوره بالحجة والبيان والمنطق والأسانيد الفقهية الدامغة .. الدراما سلاح ذو حدين إما أن تبني منظومة قيم نبيلة أو تهدم المجتمع من أساسه .. وإذا كان المجتمع لا يخلو من نقائص فليس الحل بتركيز الضوء عليها بل بغرس قيم إيجابية بديلة في مقابلها. مع التنبيه إلي خطورة ترك السلبيات» حتي لا يستفحل خطرها .. فما يحدث الآن ليس إلا تدمير القدوة في عيون شبابنا . وجعل لاعبي الكرة والفنانين وربما الراقصات قدوة بديلة للعلماء والمبدعين وصناع النهضة .. وليسأل كبار النجوم. ومنهم عادل إمام. أنفسهم : ماذا استفادت مصر في ظروفها الحالية من مسلسلاتهم .. هل ناقشوا قضية اقتصادية . أو تصدوا لأباطيل فكرية يروجها الإرهاب لكسب مؤيدين جدد في مواجهة مؤسسات دولة اكتفت بدورها الروتيني لها في مواجهة عدو بالغ التطور والشراسة .. أليست معركتنا مع الإرهاب علي كل الجبهات.. فلماذا نترك العبء كله علي كاهل الجيش والشرطة ثم ندع أفكار الضلال والبهتان ترعي في عقول بعض أبنائنا وتجعلهم وقودًا في معركتها مع الدولة . ومن أسف أن هذا العبث لا يحدث إلا في مصر وإلا فلماذا امتنعت دول عديدة عن شراء مسلسلات مصرية هذا العام .. فليس هناك دولة تسمح بتشويه وعي أبنائها مثلما يحدث في مصر دون وازع من دين أو أخلاق أو وطنية .. ونسي صناع الدراما وممولوها أن معركتنا مع الإرهاب لا تزال قائمة ولا تزيد أعمالهم الرديئة هذه المعركة إلا اشتعالاً . بل إنها تجعل المواطن في واد والدولة في وادي آخر تمامًا» ومن ثم يفقد الأول اهتمامه بما يدور حوله بعد تركيز الضوء علي مسائل تافهة وأمور فرعية لا علاقة لها بأولويات الوقت وواجباته .. وتقديم ما يطلبه المستمعون لا ما ينفعهم أو يحقق مصالحهم .
إن الدراما الملتزمة تتبني هموم مجتمعها وتعالج قضاياه المصيرية ولا تقتصر علي المتعة والتسلية أو الإثارة فقط جلبًا للإعلانات .. ولا سبيل لوقف هذه الفوضي إلا بتدخل الدولة ليس بالمنع والمصادرة ولا بالتقييد والحذف بل بإنتاج أعمال بديلة تجذب المشاهد وتخدم قضايا الدولة وتوجهاتها.
ما يحدث الآن في سوق الدراما والبرامج يدل ليس فقط علي غياب الانضباط والمعايير الموضوعية. بل يكشف عن وجود أيادي خفية تعبث بعقل مصر ووجدانها في ظل انشغال الدولة بأمور الاقتصاد المتعثر ومحاربة الإرهاب الجبان» وهو ما خلق تشوهات واهتزازات في منظومة القيم تظهر إذا ما اختلف المصريون حول أمر ما . فتراهم ينقسمون إلي درجة الاستقطاب الحاد لاسيما بعد ثورة يناير وأحداثها التي خلقت انفلاتًا غير مسبوق في السلوكيات والأخلاق .
كنا نرجو أن يفيق صناع الدراما ويعودوا إلي رشدهم بعد الذي وُجّه إليهم من انتقادات حادة في الأعوام السابقة ليقدموا ما تحتاجه مصر أولاً وما ينفع الناس وليس ما يحبونه.. ما يحقق النفع والإمتاع وليس التسلية والإضحاك وخلق حالة ذهنية مشوهة تضيع معها البوصلة والهدف.. أين هي من قصص النجاح والعصامية والاجتهاد.. أين هي من سيرة علمائنا الأفذاذ قديمًا وحديثًا والذين أضاءوا دروب القمة وصنعوا مجد الأمة وحضارتها.. أين هي من قيم الإسلام الذي يأمر بالعمل والعدل والبر والإحسان وقبول الآخر والتسامح ونبذ العنف والإكراه والبغي .
كنا نرجو لأعمال رمضان أن تشتبك مع قضايا الواقع وصعوباته ومع الإرهاب وترهاته أن تجدد فكرًا طال جموده. وأن تحرر العقل من ربقة الجهل والتعصب حتي لا نصحو يومًا علي شبابنا وقد غرق بعضهم في فكر داعش وبعضهم في الإدمان والضياع .. وهنا تتجه الأنظار للأزهر ورجاله والأوقاف وعلمائها والثقافة والتعليم وأربابهما .. آن الأوان لأن تفيق الدولة من غيبوبتها وأن تبادر بإنتاج أعمال درامية تعيد للفن بريقه ودوره المفقود لا أن تتركه للقطاع الخاص والعرض والطلب . فالدراما من أدوات تشكيل الوعي والقوة الناعمة ولا يصح تركها للعابثين أو المخططين لإفسادها وجعل العقل المصري لقمة سائغة سهل القياد والتشكيل وتقبل ما يلقي إليه من أفكار أو شائعات أو معلومات مغلوطة .. كما لا يصح أن يكون الربح هو الهدف الأسمي . وأن يتحكم في إفساد الذوق العام . نريد دراما تحرض علي التفكير بحسبانه فريضة إسلامية .. دراما تحث الشباب علي المشاركة السياسية . دراما تحارب الجهل والشعوذة التي تلتهم مليارات الجنيهات سنويًا .. دراما تبث روح الأمل والبهجة وتعيد البسمة إلي وجوه دراما تعيد إلي الوجود قيمًا اجتماعية تكاد تندثر. مثل صلة الأرحام واحترام الكبير والعطف علي الصغير وتكافح ثقافة استشرت مثل المحسوبية والوساطة والهبش والتكويش والعناية بالمظهر وإغفال الجوهر.
لا نعرف دولة تقدمت دون أن يشارك جميع أبنائها في بناء نهضتها صغارًا وكبارًا رجالاً ونساء أحزابًا سياسية ومجتمعًا مدنيًا وجامعات وإعلامًا.. لن نتقدم إلا باستلهام تجارب النجاح حولنا كانت سببًا في تقدم دول كانت يومًا أقل منا ثم سبقتنا.
تدخل الدولة لضبط مسار الإعلام عامة والدراما خاصة يخلق حالة توازن مطلوب لتعبئة الناس خلف الدولة في معركتها مع الإرهاب والجهل والتخلف حتي لا تصبح الحكومة في وادي والشعب في واد آخر .. أفيقوا يرحمكم الله وكل عام وأنتم بخير .