الأهرام
جمال عبد الجواد
حكومــة وأهــالى
استعرت عنوان هذا المقال من الاسم الذي أطلقه المبدع الراحل بهجت عثمان على مجموعة رسوم الكاريكاتير الرائعة التي نشرها في عقدي الثمانينيات والتسعينيات. نجح بهجت عثمان برسومه في تصوير المنطقين المختلفين اللذين يحكمان نظرة الحكام والمحكومين للأمور. الاختلافات بين المنطقين كثيرة ومتجددة، وفي هذا المقال مواصلة بالكتابة لما بدأه بهجت عثمان بالتصوير.

الحكومة تنظر بإعجاب إلى إنجازاتها، وتنتظر الشكر من المواطنين على ذلك، بينما الأهالي ينظرون بانزعاج إلى ما فشلت الحكومة في القيام به. إنجازات الحكومة - من وجهة نظرها- كثيرة، فالحكومة تعتبر كل رغيف مدعوم يصل للأهالي إنجازا، وكذلك كل لتر زيت أو كيلو سكر يتم توزيعها على بطاقة التموين، وكل ساعة لم تنقطع فيها الكهرباء أو المياه، أو تنسد فيها مواسير الصرف، وكل رحلة جديدة آمنة لأي قطار أو لمترو الأنفاق، وكل تطعيم مجاني يحصل عليه طفل، وكل علبة حليب أطفال مدعوم يحصل عليها طفل حديث الولادة، وكل مريض خرج معافا من مستشفى حكومي. هذه هي الواجبات اليومية التي ينشغل الأغلبية الساحقة من العاملين بالجهاز الحكومي بأدائها، وهي الأشياء التي يتوجب على كبار مسئولي الحكومة التأكد من القيام بها وإلا وجدوا أنفسهم في مأزق كبير مع الرأي العام ومع رؤسائهم أيضا.

الأهالي لا يعتبرون قيام الحكومة بهذه المهام إنجازات تستوجب الشكر، فهذا هو الحد الأدنى من الخدمات الواجب على الحكومة تقديمه، والذي بدونه ينتفي الهدف من وجود الحكومة، فالأهالي لا يعتبرون أن قيام الحكومة بالحفاظ على سير الحياة العادية إنجازا، لكنهم في نفس الوقت يحتفظون بحقهم في انتقاد الحكومة على أي تقصير في الحفاظ على هذا المستوى المتواضع من الخدمات.

الحكومة لا تكتفي بالحفاظ على سير الحياة اليومية العادية متواضعة الجودة، ولكنها أيضا تقوم بإنشاء مشاريع جديدة لتحسين الخدمات والارتقاء بجودة الحياة. كل طريق جديد يتم رصفه، وكل شارع جديد تتم إنارته، وكل بيت يتم توصيله بشبكات المياه والصرف، وكل مستشفى جديد، وكل مجمع لإسكان محدودي الدخل، كلها إنجازات تحتفل بها الحكومة، وتتوقع من الأهالي توجيه الشكر وإظهار الامتنان. الأهالي -من جانبهم- ينظرون الى إنجازات الحكومة بحذر، ويتمهلون كثيرا قبل أن يقرروا مشاركتها الاحتفال. تردد الأهالي في مشاركة الحكومة احتفالاتها هو نتيجة لخبرات طويلة متراكمة لم يكن فيها الأثر الفعلي المستدام لمشروعات الحكومة على حياة الناس بقدر الوعود التي تم إطلاقها يوم الاحتفال والافتتاح.

قبل تبادل التهاني ومشاركة الحكومة أفراحها يترقب الأهالي ما إذا كان سيجري حفر الطريق الجديد بعد رصفه، وما إذا كانت الأتربة المتراكمة ستحتل مساحات متزايدة من جانبي الطريق الجديد، وما إذا كانت هناك سلطة مسئولة ستتولى صيانة ونظافة الطريق، أم أن الطريق الجديد سيقع في المنطقة الرمادية التي تتداخل وتضيع فيها المسئوليات. قبل الانضمام للاحتفال يترقب الأهالي تغطية كابلات الكهرباء المكشوفة على جانبي الطريق الجديد، وما إذا كانت ستتم إزالة مخلفات الحفر الناتجة عن عملية مد خط الصرف الصحي الجديد، وما إذا كان سيجري رصف الطريق بعد مد أنابيب الغاز. قبل إرسال التهاني للحكومة والاعتراف بفضلها يترقب الأهالي ما إذا كان المستشفى الجديد سيتم تشغيله بكامل طاقته، أم أن نقص الأطباء وسوء الإدارة سيتكفلان بإهدار ما تم ضخه فيه من استثمارات. قبل تبادل التهاني يحسب الأهالي كم من الوقت سيمر قبل ان يسقط الطلاء عن واجهات العمارات في مشروع إسكان الفقراء، وكم من الوقت سيمر قبل ان تنشع المياه من دورات المياه ومواسير الصرف فيها، وكم من الوقت سيمر قبل ان ينجح اول مواطن في تقفيل البلكونة وضمها للصالة الضيقة، أو قبل ان تتحول أول شقة من شقق الدور الأرضي الى محل تجاري أو ورشة لإصلاح السيارات، وتغيير زيوت محركاتها.

الحكومة تفعل ما هو أكثر من تشغيل وصيانة القائم من المشروعات وإنشاء الجديد منها، فهي أيضا تصنع وتطبق السياسات التي تشجع الاستثمار، وتوجد الوظائف وفرص العمل. الحكومة تحتفل، وتدعونا لمشاركتها الاحتفال بارتفاع معدل نمو الناتج المحلي، وزيادة قيمة الاستثمارات الأجنبية، والزيادة الكبيرة في الاستثمارات المحلية، والتراجع في معدل البطالة. من وجهة نظر الحكومة فإن كل طريق جديد قامت بتمهيده، وكل رصيف جديد تمت إضافته لأحد الموانى، وكل اتفاق دولي وقعته لتشجيع الاستثمار والتصدير، وكل تخفيض ولو ضئيلا في عجز الموازنة العامة، وكل زيادة في الإنفاق الاستثماري للحكومة، وكل دعم تم تقديمه للمشروعات الصغيرة، وكل خطوة تم اختصارها من الخطوات اللازمة لتأسيس مشروع جديد؛ الحكومة ترى أن كل إجراء من هذه الإجراءات هو إنجاز أسهم في إنجاح المشروعات وإيجاد الوظائف.

غير أن الأهالي لهم في هذا رأي آخر. فالمواطن الذي نجح في تأسيس مشروع اقتصادي ناجح يعتبر ذلك توفيقا من الله أولا، ونتيجة لمثابرته ومهارته ثانيا، حتى لو كان مشروعه الناجح عبارة عن مقهى تم افتتاحه في شارع رصفته الحكومة أخيرا، وعلى جزيرته الوسطى الواسعة والممهدة انتشرت مقاعد المقهى وموائده. الجامعي الذي نجح في الالتحاق بوظيفة مناسبة يحمد الله أولا، ليشير بعد ذلك إلى مثابرته في البحث عن الوظيفة المناسبة، وإلى مؤهلاته المبهرة، وسيرته الذاتية التي كتبها بعناية. فلا المستثمر الناجح ولا المواطن حديث التوظيف يعتقد أن للحكومة فضلا في النجاح الذي حققه، على العكس، فالحكومة تظل مقصرة بسبب تدهور التعليم، والإجراءات الطويلة لتأسيس المشروعات، وفساد المحليات وجهات منح التراخيص، والقوانين واللوائح المعقدة والمتضاربة، وأيضا بسبب الضرائب والرسوم المفروضة.

الناجحون من الأهالي لا يمنحون للحكومة فضلا أو نصيبا في نجاحهم، فيما الآخرون من الأهالي، الذين مازالوا يبحثون عن فرصتهم، يضعون مسئولية تعثرهم على كاهل الحكومة التي أخفقت في توفير الوظائف، وتطوير التعليم، وتشجيع الاستثمار، وإصلاح البيروقراطية الفاسدة، ودعم المشروعات البادئة. المواطن، مثل الزبون، هو دائما على حق، هذا هو ما تعلمناه من المبدع بهجت عثمان، الذي أبهجنا ووسع مداركنا عندما بلور لنا ثنائية احكومة وأهاليب عميقة الجذور في ثقافة مصر وواقعها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف