الوطن
أمانى هولة
حكايات وطن «116»
(هنالك أيام فارقة فى حياة الشعوب.. أيام تصنع التاريخ.. ترى هل نمر ببعض منها أم تراها لحظات احتضار أخرى لشعب يموت..)

تلك كانت أولى كلمات مقالى فى يناير 2011.. ومرت السنون فى لعبة تبادل المقاعد والاتهامات بين أصدقاء الأمس وأعدائه.. وبلا تردد من إعادة النظر ومراجعة النفس.. ومقاومة السقوط فى مستنقع الكبر (والمقاوحة) أو على النقيض الانزلاق مع تدافع القطيع.. ما زلت أحاول أن أكون شجاعة لدرجة التوقف عن الحسابات التافهة لاعتبارات البشر.. ولكن الانحياز للحقيقة المجردة من المصلحة أو الهوى.. أتذكر أحلاماً ترجمتها يومها إلى كلمات ملأت بها الدنيا صياحاً فى خضم الحدث تقودها جياد الحماسة وعربتها.. لأقف عند كل منعطف جديد يطل علينا منه أحد أوجه الحقيقة، قبيح غالباً.. متجمل فى بعضها.. برىء فى قليل منها.. من زاوية رؤية تتسع بمساحات انقشاع الغيوم.. يبقى ذات السؤال ملحاً: هى ثورة ولّا مؤامرة؟.. فهل لك يا صديقى أن تبحر معى عبر طيات كلمات، كان وما زال التاريخ وصاحبة الجلالة شهوداً عليها حين نُشرت فى حينها.. وظلت مشروع كتاب عصياً على الظهور للنور.. بحثاً عن تلك الغائبة الحاضرة.. إنها الحقيقة.

روى لى أحد الشباب أنه اتفق مع أصدقائه على بدء المسيرة عند دوران شبرا لينقض عليهم الأمن المركزى، وقد حشد أعداداً كبيرة لتفريق المتظاهرين، فتفرق هو ورفاقه فى محاور جانبية، ليلتقوا عند نفق شبرا وهو يتوقع ألا تتعدى الحشود عدة مئات، كما اعتاد فى المسيرات السابقة، ليجد الأمن المركزى وقد اصطف على ضفتى نهر الطريق فى وضع تشريفة ربما تكون التشريفة الوحيدة من نوعها فى حياة مصر الحديثة بل والعالم، وبعد دقائق زالت كل علامات الاستفهام فقد كان الموكب العظيم مقبلاً بجلال يفوق كل ملوك الأرض. إنه موكب جيوش المتظاهرين السلميين بمنتهى الحضارة المقبلة والأرض تهتز تحت وقع أقدامهم، لتستشعرها فى قلبك قبل أذنيك وقد تعدت أعدادهم عشرات الآلاف، ما أجبر جنود الأمن على تحاشى الوقوف أمامهم ليصبحوا تشريفة لأعظم موكب ليصيح من قلبه.. ليردد.. بركاتك يا شيخ إمام.. فقد كانت من أشهر أغانيه (يا مصر قومى وشدى الحيل)... مصر قامت.. مصر قامت.

ويبدو أن الحضارة التى سئمنا التغنى بها ليست وهماً نتلمس به تباهى (الصلعاء) بشعر بنت أختها.. بل هى شىء مطبوع فى جيناتنا الوراثية يظهر بلا موعد ليعلن عن نفسه بلا إرادة منا.. وكما سمعت إحدى المستشرقات تقول إن الحضارة موجودة تحت جلود المصريين.

فبوعى جماعى تلقائى ودون أى اتفاق تكوّن حائط بشرى فور إدراك محاولة سرقة المتحف المصرى بعد المحاولات المشبوهة لإشعال النيران فى حتة من قلب الوطن.. اصطف الجميع وتشابكت الأيدى فى تحدٍّ.. الأيدى الناعمة تعانق الأيدى الخشنة.. يد المثقف تأخذ بيد البسيط.. يد الغنى تتشبث بيد الفقير.

وكان من الحماة البواسل المنهمكين فى تنظيم الحائط البشرى، شاب بسيط المظهر اسمه محمد.. عندما تحدثت معه قال بلا تردد إنه مستعد للموت ولا تسرق (حتة) من تاريخنا وعلى جثته أن يستطيع أحد دخول المتحف وانتهاك شىء من كنوزنا.

سألته، وأنا فخورٌة بوعيه وإدراكه لقيمة آثارنا التى لا تقدر بثمن رغم بساطة مظهره وخشونة يده، التى توحى بأنه يمارس عملاً حرفياً: «إنت ليك اهتمام بالآثار؟»، ليفاجئنى: أبداً أنا حتى عمرى ما زرت المتحف ولا باعرف أقرأ وأكتب أصلاً، لكن عارف إن المتحف مليان حاجات مهمة.. العالم كله بييجى علشان يتفرج عليها.. ده حاجة كده زى العرض.. يعنى ما نبقاش رجالة ونروح نلبس طُرح أحسن لو فرطنا فيه..

وتبدأ الدروع البشرية تتجمع تلقائياً حول المنشآت الحيوية لحمايتها فى استشعار بحقيقة المؤامرة التى بدأت تعلن عن نفسها.. وكانت الكنائس الهدف الأكثر ضرباً فى قلب الوطن لإضرام نيران الفرقة والفتنة فيها..

حتى قصر الاتحادية، الذى كنا لا نعرف اسمه حتى تاريخه أصبح هدفاً للتخريب بقاطنيه.. ليتحول الناقمون الساخطون هم أنفسهم إلى الدروع البشرية لحمايته فى أبسط تعبير عن رقى الإنسان المصرى ومعدنه الذى لا يلمع إلا عندما يشتد الظلام.

فقد قالوها قديماً إن النبل ليس ما تمارسه مع أصدقائك وأحبائك، ولكنه ذلك السلوك الذى تمارسه تجاه أعدائك.. وللحديث بقية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف