عبد الغفار شكر
أهمية مواجهة جذور السلطوية
من الواضح ان ما يجرى فى مصر الان من تنفيذ مشروعات وافساح المجال للصناعات الصغيرة والمتوسطة وما يسمى برنامج الاصلاح الاقتصادي، الذى يطبق رؤية صندوق النقد الدولى التى هى فى جوهرها رؤية لادماج الاقتصاد المصرى فى الاقتصاد الرأس مالى العالمى والخضوع لشروط العولمة لن تحقق التغيير المنشود مالم تنطلق من تقييم حقيقى للسياسات التى حكمت المجتمع والاقتصاد طوال الـ50 سنة الماضية التى سادت فيها فى مصر دولة سلطوية لا تتيح الفرصة لتغيير حقيقى فى اتجاه بناء دولة ديمقراطية تنموية.
فقد كانت هذه الدولة السلطوية فى مصر العقبة الكئود أمام استقرار المجتمع المصرى وتقدمه، وكان لها أكبر الأثر فى فشل التنمية، وفى تحقيق أمن المجتمع. فقد تمت جهود التنمية فى ظل دولة سلطوية يقوم نظام الحكم فيها على هيمنة السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى وعلى مؤسسات المجتمع المدنى عامة والنقابات العمالية والتعاونيات الفلاحية بصفة خاصة، وتمتع رئيس الدولة بدور محورى فى النظام وبسلطات مطلقة، واحتكار الحكم لتنظيم سياسى واحد، وإشباع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على حساب الحقوق السياسية والمدنية والفردية، مع تصاعد نفوذ أجهزة الأمن فى المجتمع. وكان لتحقيق التنمية من خلال نموذج يقوم على رأسمالية الدولة فى ظل نظام سلطوى أكبر الأثر فى نمو مجموعة من القيادات البيروقراطية التى تولت قيادة القطاع العام والهيئات الاقتصادية، وحصولهم مقابل ذلك على مرتبات ودخول تضعهم فى أعلى سلم الدخول، وفى غيبة الرقابة الشعبية تحولت هذه الفئة مع مرور الوقت، ومع تكوين نظام شبه مغلق، وتوافر آليات تؤكد وحدة المصالح إلى طبقة جديدة هى الرأسمالية البيروقراطية، أتاح لها تمتع الدولة بوضع احتكارى أن تنفرد باستغلال المستهلك المصري، ومع تراكم الثروات لدى أفراد هذه الفئة حدث تناقض بين مصلحة الفرد فيها وبين المصلحة العامة للنخبة الحاكمة، حيث من مصلحة الفرد إفساح المجال لرأس ماله الخاص، حتى يتمكن من استمرار التراكم الذى حققه بشكل شرعى وغير شرعى من موقعه فى جهاز الرأسمالية البيروقراطية، بينما من مصلحة هذه النخبة فى مجموعها أن تظل هى المسيطرة، ولكن الغلبة جاءت فى النهاية للقطاعات، التى فضلت مصالحها الخاصة وشكلت تاريخياً النواة الأولى للرأسمالية المصرية الجديدة فى الفترة من 1974-1990 .
تفاعلت السلطوية وسيطرة البيروقراطية على الاقتصاد وهزيمة يونيو 1967 فى إضعاف جهود التنمية وإخفاقها فى تحقيق معدلات نمو عالية أو الاحتفاظ بمعدلات النمو المتحققة فى الخمسينيات والستينيات. كما ساهم فى هذا الإخفاق ما ترتب على السلطوية من غياب المساءلة والمحاسبة وغياب الرقابة الشعبية وضعف مشاركة الشعب وفساد المؤسسة العسكرية وتدخلها فى الحياة المدنية، فيما عرف فى ذلك الوقت بسيطرة مراكز القوى على نظام الحكم وكانت النتيجة هزيمة عسكرية فادحة دخل المجتمع المصرى بعدها مرحلة من عدم الاستقرار واضطراب الأمن رغم كل ما تحقق من إنجازات تنموية خلال هذه الفترة.
لم يختلف الأمر كثيرا رغم الانتقال من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية المقيدة، ففى مواجهة المطالب المتزايدة بإنهاء النظام السلطوى بادر النظام الحاكم إلى اعتماد صيغة مقيدة محكومة من أعلى للتعددية الحزبية استفاد منها أيضا فى إعطاء انطباع بوجود قدر من الليبرالية السياسية يواكب تبنى الدولة سياسية الانفتاح الاقتصادي، وكان الأخذ بالتعددية الحزبية فى مصر 1976 عملية إدارة لتناقضات المجتمع السياسى والتنمية أكثر منها عملية مقصودة لذاتها أو لتحقيق قدر من التطور الديمقراطي. كما أن صعود وهبوط عملية الإصلاح السياسى فى مصر خلال ربع قرن من عمر التعددية الحزبية، إنما كان انعكاسا لرؤية النخب الحاكمة لأفضل الطرق التى يمكنها بها مواجهة التهديد الموجه لبقائها. ولم يترتب على الأخذ بنظام التعددية الحزبية أى تغيير فى السمات الرئيسية لنظام الحكم السلطوى المتمثلة فى هيمنة السلطة التنفيذية على السلطنيين التشريعية والقضائية، والدور المحورى لرئيس الدولة بسلطاته المطلقة طبقا للدستور، وهيمنة أجهزة الدولة على الصحافة ووسائل الإعلام الجماهيرى وعلى مؤسسات المجتمع المدني، واستمرار احتكار الحزب المهيمن للحكم، واستمرار حالة الطوارئ ، وبذلك فإن التعددية الحزبية المطبقة فى مصر، كانت تعنى قبول النظام السياسى مبدأ التعددية فى شكل أحزاب سياسية، ولكن فى إطار قيود وقواعد معينة تحد من إمكانية تداول السلطة وممارسة هذه الأحزاب لوظائفها المتعارف عليها فى النظم الديمقراطية. واستقر الأمر على وجود حزب كبير مهيمن يحتكر الحكم بصفة دائمة وإلى جواره مجموعة من الأحزاب الصغيرة التى لا يسمح لها بالنمو إلى الحد الذى يمكنها من منافسة الحزب الحاكم أو تداول السلطة معه من خلال الانتخابات.
وفى مواجهة المطالب المتزايدة من الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدنى والمثقفين بالإصلاح السياسى صعدت الدولة من آليات السيطرة على الحياة السياسية ورفضت قيام أحزاب جديدة وواصلت محاصرة الأحزاب السياسية وحرمانها من ممارسة نشاط سياسى جماهيرى باستخدام قانون الطوارئ، فحرمت الأحزاب من عقد المؤتمرات الجماهيرية أو تنظيم المواكب والمظاهرات السلمية أو توزيع البيانات الجماهيرية، كما حرمتها من استخدام الإذاعة والتليفزيون فى عرض برامجها السياسية على المواطنين.
وهكذا، فان النجاح فى بناء نظام ديمقراطى تنموى يتطلب مواجهة السياسات السائدة فى مصر منذ 50 عاما.