د . رفعت السعيد
د. على جمعة.. وخوارج العصر (3-5)
ونأتى فى رحاب فضيلة الدكتور على جمعة لنواصل مطالعة ابداعات لتلاميذه.. ففى المجلد الثالث يأتى د. محمد وسام خضر ليواصل الرد على خوارج العصر فيما سماه «اصول الفقه عند النابتة» والدكتور محمد وسام هو أمين الفتوى بدار الافتاء المصرية. وهو يخوض فى بحثه مسألة مهمة هى مسألة اللجوء إلى المنطق عبر علوم الكلام وهو ما يرفضه خوارج العصر ملتزمين بقول ابن تيمية «أن علم المنطق هو علم لا يحتاج إليه الذكى ولا ينتفع به البليد» ومن هنا فإن الخوارج يرون أن أكثر الكتب الأصولية اصحابها من الاشاعرة والمعتزلة فلا عجب أنهم افسدوا علم اصول الفقه بإدخالهم علم الكلام فيه ومعه مسائل لا ثمرة من ذكرها ولا علاقة لها بأصول الفقه» (ص15). فالمقصود من ذلك – فيما اعتقد- أن الخوارج يأخذون من أصول الفقه كما وضعها القدامي، دون عرضها على العقل الذى يستخدم المنطق لفحصها وتبيان ما فيها من افكار تناقض الفهم العقلي. وإذا كان القاضى الباقلانى يرى أن التبحر فى فن الكلام شرط فى استجماع آراء المجتهدين» فقد وقف فى مواجهته ابن السمعانى الذى قال فإذا كان هؤلاء المتكلمون لم يكن لهم من معرفة الفقه وأحكام الشريعة حظ كثير فإنهم لا يصيبون وجه الحق. (ص 51)
وهنا يعود المؤلف إلى الدكتور على جمعة ليستمد منه سندا عندما يقرر أن علم الكلام يمثل النظرة الكلية للكون والإنسان والحياة عند المسلمين إذ يقودنا إلى غيره من العلوم الاسلامية، وكان لها فى مقام الحامى والمدافع عنها» (د. على جمعة- الطريق إلى التراث الاسلامى – ص80) ويمضى الدكتور محمد وسام قائلا: «وهذا المعنى ما سماه شيخنا المجدد مفتى الديار المصرية السابق فضيلة الاستاذ الدكتور على جمعة رضى الله عنه بنظرية الحجية التى توضح استمداد اصول الفقه من علم الكلام. فإن اللجوء إلى المباحث الكلامية فى علم الاصول يدل على رفضهم الاكتفاء بالبحث الظاهرى كأن يقول هذا حلال وهذا حرام باللجوء إلى مجرد تقليد القديم وأخذه على علاته. بينما يحثنا مولانا على جمعة على تفهم أصول الفقه والعلوم الشرعية عبر ما سماه «الاسئلة الممتدة» التى تأتى عبر علم الكلام، ويعنى بالاسئلة الممتدة، ملاحقة كل اجابة عن سؤال سابق بكلمة لماذا؟ ساعين بذلك إلى الكشف عن حقائق الاشياء والبحث عن اسسها وأصولها، ونمضى مع تفسير مولانا على جمعة «فإذا قال الاصولى مثلا باحثا عن علة تحريم الخمر: لماذا حرم الله الخمر؟».
تأتى الاجابة الاولى «حرمها من أجل خاصة الاسكار فيها، ويسأل «ولماذا كان الاسكار يستوجب التحريم؟ والاجابة «لأن الاسكار ذهاب العقل. وسؤال آخر «ولماذا كان ذهاب العقل يقتضى التحريم؟ والاجابة لأن العقل مناط التكليف والتكليف يكون لتحقيق مراد الله من خلقه ومراده هو عبادة الله وعمارة الدنيا. وهكذا فعبر هذه الاسئلة التى نفهم بها مراد احكام الشريعة نجد انفسنا فى اطار علم الكلام.. أى فى منطقة استخدام العقل وفهم مراد الشريعة فهما عقلانيا.. وهنا يبدأ العقل فى فرز ما هو متوافق مع روح العصر من فقه الفقهاء القدامي. ثم ينتقل بنا المؤلف إلى أن علماء المسلمين قديما قد ادركوا اهمية تأثير تعلم العلوم العقلية على فهم الشريعة وادراك مقاصدها وابانوا خطر الاستهانة بالعقل والعلوم العقلية ثم يأتى إلى العلامة الراغب الاصبهانى (توفى 502هـ) فى كتابه الذريعة إلى مكارم الشريعة» انه يتعذر فهم العلوم النبوية على من لم يتهذب فى العلوم العقلية. فالمعقولات تجرى مجرى الادوية الجالية للصحة والعلوم الشرعية كالاغذية الحافظة للصحة، والجسم متى كان مريضا لم ينتفع بالاغذية ولم يستفد منها، ويمضى قائلا: «فالقلب بمنزلة مزرعة للمعتقدات، والاعتقاد الكامن فى القلب بمنزلة البذور إن خيرا وان شرا. وكلام الله تعالى بمنزلة الماء الذى يسقيه، والماء إذا سقى الارض يختلف نباته باختلاف البذور. (ص28).. ثم يأتى بنا إلى حقيقة مهمة «فالداعى إلى محض تقليد القدامى مع عزل العقل بالكلية جاهل» لكنه يحذرنا من أن العقل وحده لا يكفى بل يجب الاخذ بأنوار القرآن والسنة فيكون جامعا بين الاصلين. فإن العلوم العقلية كالاغذية والعلوم الشرعية كالأدوية، والمريض قد يضره الغذاء متى فاته الدواء» (ص29). وكما يفعل خوارج العصر من رفض أى إعمال للعقل أو السعى نحو التعامل مع مستحدثات العصر أو اعمال للعقل لتحقيق ما يمكن تسميته بفقه مستجدات الواقع كذلك رفض الخوارج القدامى اللجوء إلى العقل أو المنطق أو علوم الكلام فكل ذلك عندهم حرام، ولهذا وقفوا ضد المذهب الاشعرى والداعين له، لأن هذا المذهب دعا الناس لأن تعيش عصرها ولا تقف عندما كان فى عصر النبوة فقط فالرسول (صلى الله عليه وسلم) قد ترك لنا منهج التفكير الذى نتعامل به مع المستحدثات سواء الفكرية أو العملية. وخوارج العصر كالخوارج القدامى يقفون من العقل موقف العداء ويكفرون الآخذين به ويمضون فى طريق التطرف متمسكين بالجهل بحقيقة الدين.
ويمضى الدكتور محمد وسام ليصف خوارج العصر قائلا «أنهم يرون أن الاصل فى العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو الحرب وليس السلم وانه يجب على المسلمين شن الحرب ضد غير المسلمين فى كل مكان. بينما المنهج الوسطى هو ما فهمه المسلمون عبر العصور وهو أن الاصل هو التعايش مع غير المسلمين والسلم وليس الحرب لقوله تعالى «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين»(الممتحنة/8) وقوله عز وجل «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله انه هو السميع العليم» (الانفال/61).. ويمضى الكتاب والكاتب فى تفنيد حجج الخوارج القدامى والخوارج الجدد الذين تمادوا فكفروا المسلمين واجروا عليهم حكم المشركين ومن ثم قتلوا وسفكوا دماء وتصوروا انهم بذلك يقيمون شرع الله. بل هم يقيمون شرع الشيطان.
ومع الشكر للدكتور محمد وسام.. والاحترام لمولانا الجليل د. على جمعة.. نواصل.