صبيان هنديان أدهشا العالم منذ نحو شهرين، الأول استطاع أن يحول «دمية» إلي أداة تجسس وتشويش، تفوقت علي آخر تقنيات الأمن الإلكتروني والسيبراني، في مؤتمر ومعرض أمني، بهولندا. أما الثاني فقد ابتكر أخف وأصغر قمر صناعي (64جراما) في العالم، حاز به الصدارة، في مسابقة دولية رعتها وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» وقررت إطلاق القمر إلي الفضاء هذا الشهر. الفتي الهندي أطلق علي اختراعه «كلام سات» تيمنا باسم الرئيس الهندي السابق عبدالكلام، العالم البارز والأب الروحي لبرنامج الصواريخ في الهند. الفتي اكتشفت مواهبه وترعاه مؤسسة «سبيس كيدز إنديا». مؤسسة تعمل علي نشر العلوم والتعليم بين الأطفال والفتية في بلاده، قدرة الصبيين علي إبهار الأوساط العلمية في مشارق الأرض ومغاربها، تثبت صحة مقولة باتت شائعة، وهي أن «الهند أمة من العباقرة والكادحين والمهرة» بحسب تعبير أنجيلا سايناي في كتابها: «أمة من العباقرة».
مثل هذه المفاجآت السارة أمور دارجة في شبه القارة الهندية، بلاد الأساطير والأديان واللغات المتنوعة، قد يكون هذا مثيرا للاستغراب، لأن صورة الهند ظلت مقترنة بالتخلف والعوز لدي بعض العرب، ويردد بعضنا ساخرا: «هو إنت فاكرني هندي»!، لكن الحقيقة أن تلك الصورة الزائفة لدي بعضهم مجرد قشرة واهية، الهند أمة ناهضة نابضة بالحياة، تسير بخطي حثيثة واثقة للمنافسة مع الكبار علي زعامة العالم، بلد في عجلة من أمره، سلاحه العلم والتكنولوجيا.. يضع خبراء السياسة الدولية نيودلهي في المرتبة الرابعة عالميا بمعايير القوي الشاملة، بعد واشنطن وبكين وموسكو، تحوز الاقتصاد الأسرع نموا في 2016 ــ تخطت الصين ــ وحلت في المركز السادس بناتج إجمالي نحو 23تريليون دولار، أبرز قطاعاته: اقتصاد المعرفة وتكنولوجيا المعلومات، وادي السيليكون في مدينة بنجالور معقل عالمي، يجذب الشركات الأهم والأكبر، وتتجاوز صادراتها 100 مليار دولار، بالإضافة إلي القاعدة الصناعية الضخمة من صناعة السيارات إلي الأسلحة، وبرنامج نووي يافع، وغزو الفضاء وإرسال مركبة غير مأهولة إلي كوكب المريخ، وتعد السوق الاستهلاكية المحلية عاملا إضافيا للقوة بحكم تعداد سكانها «1٫25مليار نسمة».. الأمر لم يكن سهلا علي طول الخط، كانت هناك عقبات وأشواك، في عام 1991 أوشكت الهند علي الإفلاس، سقط 330 مليون مواطن تحت خط الفقر (اثنان من كل خمسة)، ارتفع التضخم بشدة ومعه الأسعار وتآكلت الدخول. اضطرت الهند إلي تسليم حمولة طائرة من احتياطي الذهب، رهنا، لضمان قروض قصيرة الأجل من لندن!.
إذن يظل النظام التعليمي المتميز والانفتاح علي العالم عنصرا مهما في تفسير الأحجية الهندية؛ فالتعليم المتقدم رافعة للاقتصاد، والاقتصاد المتطور يتطلب مؤهلات وكوادر ويستجيب له النظام التعليمي ، وفقا لمقولة عالم الاجتماع الفرنسي «إدغار موران»: «إن سيرورة علم/تقنية، سيرورة دائرية تتغذي من مكونات تاريخية ومجتمعية». لكن الملمح الأكثر سطوعا في معجزة بلاد السند هي قدرة الهنود علي بناء صرح ديمقراطي متميز، رسخ القيم الديمقراطية في المجتمع، لتكون رافعة بمواجهة التحديات، وتنعكس صورتها علي أبنية المؤسسات السياسية والقضائية والإعلامية، حيث الشعب هو مصدر السيادة والشرعية، والبرلمان يجسد إرادة الأمة، في نظام برلماني مستقر واقتراع منتظم حر ونزيه، يفضي إلي تداول سلمي للسلطة. أما الصحافة ووسائل الإعلام فهي حرة ونزيهة ونابضة بالحياة، متنوعة، تطرح الآراء السياسية سواء المعارضة أو المؤيدة، وتفتح صفحاتها وقنواتها للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني؛ مما يسهم بسرعة تحديد المشكلات، وإحاطة الدولة علما بكيفية التعامل الإيجابي معها. ولاشك في أن الإعلام القوي والقضاء المستقل، مداخل لا غني عنها لتحقيق التنمية، يبرزان قدرة أي نظام علي تطبيق مبادئ العدالة والمساواة والإنصاف والشفافية، ولولا ذلك ما نجحت التجربة الهندية، خاصة وهي تعاني أوضاعا وتعقيدات جيوسياسية داخلية وتخوض صراعات مع منافسين إقليميين ودوليين، في فضائها الحيوي -وفي القلب إمدادات الطاقة من الشرق الأوسط- محاولة صياغة عالم متعدد الأقطاب، حتي شبه البعض نجاحها بالثورة «الكوبرنيكسية»، لكن في موازين القوي العالمية.
الحالة الهندية سارت علي درب الأمم الناهضة، باتزان ودون ضجيج، تحفر الصخر بقطرات الماء بدلا من المعاول، اختارت الديمقراطية والعلم والتكنولوجيا، فخرج أبناؤها بمعجزاتهم ليغيروا وجه الدنيا، وإذا كانت تلك الحالة تصفعنا بدليل إضافي علي حالة العجز والتمزق العربي المزمنة، فإنها تمنحنا شاهدا مغريا، علي إمكان اللحاق بقصة نجاح مماثلة، بشرط ألا يستقيل العقل أو يقال، قالها ونستون تشرشل، ذات يوم: «إمبراطوريات المستقبل ستكون إمبراطوريات العقل»!.