الأهرام
د . أحمد عاطف
الواقع المتخيل ومستقبل الترفيه!
أعطونى موعدا نحو التاسعة مساء. انتظرت فى مكان خلفى برصيف الميناء البحري. مضت الدقائق متثاقلة لأنى لا أعرف وجهتى المجهولة. لكن دائما ما كنت امنى نفسى وانا احدد معهم الموعد بأن الامر جلل ويستحق المغامرة. اصطحبتنى المضيفة الى سيارة أقلتنى لمكان بعيد عن مكان الاحتفالات. وجدت بالسيارة ماء غازيا خلته مشروبا مصحوبا بمخدر ليخفف وطأ الهول. بدأت أتأمل طريق البحر و المارة و لا استطيع التركيز فى اى منهم. دخلنا منعطفا مظلما بعيدا عن الجبل والمدينة. قتلنى الفضول وكنت اريد الوصول وخوض التجربة مهما كلفنى الامر. كنت اعرف مسبقا ان البعض اصيب بالاغماء والاخرين اصيبوا بالصراخ عندما شعروا بالترويع لكن لم يفصحوا لى هل مات احد من التجربة ام لا. عندما وصلت، مدوا الى بقوة ورقة مكتوبا بها اقرار بأننى اخوض التجربة على مسئوليتى وانهم ليسوا مسئولين اذا اصابنى اى مكروه. تجمد قلبى للحظات واغمضت عينى وامهرت الورقة بتوقيع الموافقة. طلبوا منى خلع الحذاء وخلع الشراب والساعة وترك التليفون المحمول فى علبة مغلقة بأرقام سرية. دخلت غرفة مظلمة وجعلونى ارتدى حقيبتين واحدة على الصدر والاخرى على الظهر. لم تكونا ثقيلتين لكن مربكتان لاتصالهما بكابل طويل اشبه بكابل التكييف لكنه ممتد فى الغرفة المقاربة لحجم ملعب تنس. وجاءت اللحظة الحاسمة: ارتدى نظارة على عيناك وانطلق فى المغامرة. انتفضت كالمصاب بحمى. فالظلام حولى من كل جانب وكأنى سقطت فى بئر عميقة. ارتجفت اوصالى، جف حلقى، ازدادت ضربات قلبى لكنى كنت مترقبا اكثر منى خائفة. وفجأة اضيئت الظلمة بمعجزة. وجدت نفسى بشحمى ولحمى ووعيى وكيانى وكينونتى جزء من مشهد حقيقى وليس مفتعلا او مفبركا داخلا الصحراء على الحدود المكسيكية الامريكية. قدماى الحافيتان تشعران بالرمل.. اشعر بكل شىء وكاننى احضر المشهد. الحوار بالاسبانية التى اعرفها لحسن الحظ والمشهد لمهاجرين من المكسيك يحاولون قطع الصحراء للوصول لامريكا. منهكون حتى الاعياء، يتألمون، يتأوهون، يواسون بعضهم البعض، احذيتهم شبه ممزقة من وعورة الطريق وحدة الصخور وكل منهم يواسى الاخر. يسندون بعضهم البعض وخاصة الاقارب منهم. والشباب يواسون العجائز ويساعدونهم. سقطت على الارض سيدة عجوز. كنت اريد المساعدة انا الاخر وهرعت نحوها فإذا بى اكتشف اننى غير مرئى لهم كأننى فعلا ارتدى طاقية الاخفاء. فاجأنا ضوء احمر غريب فى السماء، واذا بها طيارة هليوكوبتر تطير فوقنا واشعر بها فوق رأسى تماما كالاخرين معى الذين بحثوا عن مخبأ وراء صخرة فى هذه الصحراء الجرداء. ما هذا هل سنموت من ضرب نار الطائرة ام ماذا؟ جاءت سريعا فى اعقابها دورية من شرطة الحدود مدربة، قاسية، محددة الاهداف تعرف ماذا تريد. انا وكل المكسيكيين مرعوبون. وهم يصرخون فينا اخرج اوراقك. انبطح على بطنك. تذكرت اننى لا مرأى فتجولت وسط المشهد. اكاد اقسم بان كل شئ حقيقى. الرعب حقيقى والشخصيات ليست جرافيك بل بشر. يكفى ان ألمسهم بأصبعى لكى أتيقن، لكن كل حواسى الاخرى تؤكد الحقيقة. الصحراء حقيقية و الريح و اشعر بالهواء الفعلى وهو ليس هواء تكييف مكان العرض على اى حال. تجولت بحرية لكى ارقب المأساة. لم يقطعنى سوى تصويب احد رجال الشرطة بندقيته نحو صدري، تصورته يقصد احدا ورائى فأنا غير مرئى. لكنه صرخ فى انا اكثر من مرة. انه يهددنى انا ويسألنى وانا لا افهم ولا اسمع الا صوت خوفى. قبل ان اموت من هول المفاجأة، اضىء النور وخلعوا لى النظارة واكتشفت ان العرض انتهى. ما كنت فيه هو عرض لتقنية ا الواقع التخيلى من اخراج المكسيكى العظيم اليخاندرو جونزاليس اناريتو، احد اشهر مخرجى العالم بافلام امورس بيروس وبيرد مان و حائز كل الجوائز العالمية واهمها الاوسكار. انه اول مخرج كبير يقدم تلك التقنية فى فيلم قصير مدته 6 دقائق فقط. مدة قصيرة شعرت فيها بكل المشاعر الانسانية. وهذا هو السبب فى ضرورة توقيعنا عند الدخول اقرارا بتحمل المسئولية الكاملة على عيش تلك التجربة، لان الكثيرين لم يتحملوا انها توحى بالصدق لاقصى درجة. عندما ظهر فن السينما فى العالم عام 1895.قام المتفرجون خوفا من اماكنهم عندما رأوا القطار على الشاشة متجها نحوهم. تصوروا انه سيصدمهم. نفس الموضوع يتكرر الان. تلك التقنية هى اهم اختراع جديد فى عالم الفن.انه يهدد كل الفنون وينزلها من على عروشها. وامكانياته فى التعبير خرافية و ممتدة لأقصى حد. قد يجعلوك فى عرض لاحق تشم روائح وتشعر بطقس عاصف وتلمس الارض القاحلة: انها سينما الحواس التى ستدخل اليك من كل خلاياك. وعندما ينتشر الواقع المتخيل، سيكون من الصعب عليك كمتفرج تقبل فنون اخرى اقل ابهارا. المستقبل ملىء بالامكانيات، وقريبا جدا ستنتشر التجربة وسندخل عصرا جديدا من الفن تستطيع معه ان تعايش الاحداث لا مجرد ان تشاهدها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف