كما انتهت ـ تقريباً ـ مهمة المسحراتى، وهى عادة مصرية خالصة من أيام الفسطاط، انتهت أو كادت ظاهرة طوابير صاجات الكعك والغريبة والبسكويت.. وكانت كل أسرة تحجز العدد الذى تحتاجه من هذه الصاجات -سوداء اللون- حسب ما تعده من مستلزمات الكعك وأخواته.. وكان هذا العدد يرتبط بثراء الأسرة وقدرتها المالية!
وكانت كل سيدات الأسرة والصبايا يعملن كفريق واحد.. بينما كان الصبيان والبنات دون العاشرة يحملن هذه الصاجات إلى الفرن البلدى وينتظرون ـ وكل فى موعده ـ إنضاج الكعك.. ليعودا به إلى البيوت.. وإذا كانت الأسرة تنفق على هذه العملية الكثير.. إلا أنها كانت تفاخر بعدد الصاجات التى تخرج من البيت.. ولابد أن يحصل الفران على نصيبه من الكعك وغيره بخلاف أجرة الفرن نفسه.. ويا ويله لو احترقت الصاجات بما فيها!!
<< والدمايطة.. لا يكتفون بصنع الكعك والغريبة والبسكوت والبيتى فور، بل يصنعون شيئاً آخر يطلقون عليه «السففية»، وهى خليط من الأعشاب والعطارة وملمسها هش يذوب فى الفم.. وأيضاً يصنعون «القرصة» أو اللقمة الخضراء وتزيد فيها التحويجة والأعشاب.. وهى مغذية جداً بما يضاف عليها من مكسرات.. ويا حبذا لو تؤكل فى شهور الشتاء والبرد لما توفره للآكلين من طاقة غير عادية.. ولا يعرف السففية والقرصة إلا أبناء دمياط وبورسعيد فقط. وهناك من يعشقها أكثر من كعك العيد والغريبة!! إذ تكفى قطعتان مع كوب لبن بقرى ليحصل الآكل على وجبة إفطار كافية.. وكنا نحن طلبة نأكلها خلال ساعات المذاكرة.
<< وإذا كانت ظاهرة صنع كعك العيد وأخواته قد انطفأت وكادت تختفى من البيوت.. فإن غلاء أسعار هذا الكعك فى المحلات أعاد كثيراً من الأسر إلى إعداد هذا الكعك فى البيوت.. وأتذكر هنا أن طقوس أعداد الكعك كانت تبدأ بشراء القمح، وتقوم الأسرة بعملية غربلته فى الغربال لإزالة بقايا الطين والحصى. ثم وضعه فى «المقاطف الكبيرة» انتظاراً لعربات نقل القمح التى تجرها البغال إلى المطاحن الحجرية القديمة. أو الطواحين العصرية.. وكنا ننتظر كل ذلك على أبواب «وابور الطحين»! لتقوم سيدات الأسرة بإزالة الردة باستخدام المناخل، ثم تبدأ العملية الأكبر. فهذا الدقيق للكعك وهذا للغريبة. وهكذا.. وأهم شىء كان اختيار أفضل أنواع السمن البلدى والزبد البقرى.. واختيار أفضل أنواع التحويجة من العطارين.. إنه مشوار طويل وعدة ليالٍ تقضيها الأسرة فى إعداد هذا الكعك وأسرته!!.
<< وعندما كانت الأسر تعد كل ذلك فى البيوت.. كانت أطباق الكعك تنطلق من بيت لآخر.. وكانت كل أسرة تتفاخر بما تصنع. الآن بعد أن قفز سعر الكعك إلى المائة جنيه.. اختفت أو كادت أطباق الكعك التى تنطلق من بيت إلى بيت.. ونحن نقول لمن نقدمها: دوقوا الكعك بتاعنا!!
فهل هذا أسلوب اختفى من حياتنا بسبب الغلاء؟.. وبالمناسبة كان المسحراتى يحصل أيضاً على نصيبه.. وكان عم سليمان مسحراتى حى رابع بدمياط يجر معه جملاً عليه هودج، وليس حماراً كما كان يفعل غيره من المسحراتية.. ليضع عليه ما يحصل عليه من كعك العيد!!
وكل كعك وأنتم طيبون.. وإن كنت أفتقد السففية الهشة شديدة الطعامة.. حقاً.. كانت أيام.